في شتـاء سنة 1993، اعطتني صديقتي سرّا صورة فوتوكوبي لورقة مكتوبة بخط اليد (والخط كان عكش) ، يترأسها عنـوان: ″ما في حبوس بتساع كل الناس″.
وهمست لي ″قم بتصويرهـا وتوزيعها في كليـة الحقوق على زملائك″، وتابعــت لكن ″انتبــه هيدي مكتوبــة بخط أيــد العماد ميشال عون، اذا انكمشت فيهــا حبس″! أجبتهـا فورا (طبعـا لأنال اعجابهــا) “فدا أجــرك الحبس للرجــال” !
كانت أول خطوة لي أقوم بها على طريق العونيـــّـــة، بدأت أفكّر كيف لي أن أصــور الورقــة دون أن يقرأها صاحب محل ماكينات التصويــر الكائن مقابل كليتنا في محلة القبة؟ ومن أين لي أن أدفع ثمن تصوير 100 أو 200 ورقة وأبي كان راتبـه بالكاد يكفينا لدفع مصاريف الحياة اليوميــة!! فكّرت مليــّا وقلت في نفسي: ليس أمامي الا صديقي جورج الذي يعمل عند قريبه الخواجــة جورج ولديه ماكينات تصوير …
بعد الظهر، ذهبت الى مكتب صديقي وكان دارج في تلك الايام ماكينات تصوير بتقنية “ستانسل” السريعة والفعــالة، طلبت اليه اذا كان بامكاني تصوير فقط 100 ورقـة لزوم دراستي، فلم يمانع وعلّمني كيف استعمل الآلـة الخارقة وتركني لوحدي فقمت بتصوير خطاب العماد دون أن يراني أحد؛ وفي صباح اليوم التالي، ذهبت الى جامعتي باكرا ودخلت الى قاعة سنة أولى حقوق خلسة ودون أن يراني أحد، وضعت الاوراق على طاولات الطلاب بسرعـة البرق ثم صعدت الى الطابق الاول ودخلت قاعة سنة ثالثة ولم اخرج منها والرعب ينتابني، وصورة “المساعـد علي” ارتسمت على لوح قاعة المحضرات، الذي كان يبلي بلاء قاسيا بنـا عندما يجري توقيفنـا لدى المخابرات .
اليوم عندما سمعت خبر البــدء بملاحقة، كل من وجّـه نقد على موقع فايسبوك الى ذاك العمــاد الذي تسلح بمقولة السيـّـدة فيروز والرحابنة عن الحبوس ومدى اتساعها، عـاد الي شعور الفزع والهلع وتذكرت كيف بادر مدير الجامعة في وقتها الدكتور مهاب نجا رحمه الله، الى استدعـاء حاجب الجامعة “العمّ ربـاح” وسأله عن من دخل الى قاعة سنة أولى باكرا؟ وبدأوا جميعـا في البحث ضمن نطاق طلاب سنة أولى فلم يجدوا أحدا، والحمدلله لم تكن الكاميرات متداولة بين الناس في تلك الايام. ولا أخفيكم سرّا، أنني عندما بادرت الى مغادرة الجامعـة يومها، حاولت تجنّب النظر الى “ربــاح” الا أنه بقي يلاحقني من بعيد بنظراته حتى بوابة الجامعـة، وما أن وقعت عيني على عينـيه الحولاوين، ابتسم لي و هزّ برأسه، ففهمت أنــه رآني صباحاً وحماني، رحمه الله حيّـا كان أم ميّتا.
استذكرت هذه القصـّة اليوم، حيث أتت في وقتها وفي موعدهــا، وقد أعزو مباشرة الملاحقات الجزائية الى مبالغة الشعب اللبناني في الأدب مع ظلّامه، اذ لم أقرأ عن ثورة بهذا القدر من السلمية في تواريخ الأمم، وقبل أن أختم لا بد لي من أن أستحضر ما قاله المناضل نيلسون منديلا في هذا المجال :
“المقاتل لأجل الحرية يتعلم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وغالبا مالا يجد المستضعف بديلا سوى استخدام نفس أساليب الظالم “.