كان يجب أن تتصدّر عناوين المواقع والتلفزيونات تصريحات لكلّ النواب والوزراء، حاليين وسابقين، ومحلّلين سياسيين، من جمهور رفيق الحريري، ومحبّيه، وقدامى العاملين تحت إدارته، في طوائف ومن مناطق مختلفة، وكذلك صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، تزامناً مع هاشتاغات محدّدة، تقول إنّ “حزب الله قتل رفيق الحريري”، وأنّ حكم المحكمة الدولية أثبت هذا العنوان، من خلال الحكم على مسؤول أمني وعسكري في حزب الله، هو سليم عياش، بأنّه فجّر موكب رفيق الحريري.
لا شيء غير هذه الرسالة، ولا شيء أوضح منها، ولا شيء أكثر جدارةً بالإبراز والتظهير. بعدها نناقش ماذا يعني هذا الحكم، وكيف سيتصرّف حزب الله، وكيف سيتنازل، وماذا سيجري إذا “اختفى” سليم عيّاش أو انتُحِر، وهل يمكن أن نذهب إلى قرارات تحت الفصل السابع لـ”إحضاره” تحت قوس العدالة في لاهاي.
أخطأ المتعاطفون مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أخطأ مناصروه. أخطأ محبّوه. وأخطأ الإعلام المتعاطف معهم
بدلاً من ذلك خسرنا المعركة قبل أن تبدأ، بسبب خمول وكسل وفشل البعض. وذهبنا إلى الحديث عن تشكيل الحكومة، ومن سيكون رئيسها ومن سيشارك فيها. حتّى بدا أنّ ذكرى رفيق الحريري، ومناسبة التوصّلإلى معرفة القاتل، لا توازي أهمية حكومة قد تتشكّلوقد لا تتشكّل، وقد تعيش شهراً أو عاماً.
ماذا فعل كلّ هؤلاء، أبناء المحور المدمن على الخسارة؟
أكثر من نصفهم ساكتٌ حتّى الآن، والنصف الآخر غرق في الدفاع عن مصداقية المحكمة، وفي مناقشة بنود تفصيلية، وكيف أنّ عدم إدانة حزب الله والنظام السوري سببه “فيتو روسي” في مجلس الأمن حين أنشئت المحكمة. وغرق بعضهم في نقاشات تفصيلية جرّهم إليها نجوم الممانعة على مواقع التواصل وعلى التلفزيونات، من محلّلين ومذيعين وسياسيين. نقاشات جانبية ولا قيمة لها، حول الحكومة، جعلت من تلك اللحظة التاريخية والفاصلة في مستقبل لبنان، لحظة إحباط. فأحبطوا جماهيرهم، بل وشاركوا في المؤامرة على المحكمة.
هذا الانهزام الإعلامي ليس جديداً في أوساط الجمهور السيادي. وهذا سابق على إقفال تلفزيون “المستقبل” والجريدة. فدائماً كان يربح حزب الله في الإعلام، ما يخسره في الحقيقة والواقع. فعل هذا في حرب تموز 2006، وفعل هذا عشرات المرّات، قبالة بيئة إعلامية وسياسية تبدو مدمنة على الخسارة. حتّى حين تربح في السياسة، تذهب إلى خطاب مهزوم.
أخطأ المتعاطفون مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أخطأ مناصروه. أخطأ محبّوه. وأخطأ الإعلام المتعاطف معهم، والمتحدّث باسمهم، والقريب إليهم. كلّهم أخطأوا في إدارة المعركة الإعلامية منذ لحظة صدور الحكم في جريمة الاغتيال القاسية.
فالمحكمة الدولية أدانت، بما لا يرقى إليه الشكّ، أنّ مسؤولاً عسكرياً في حزب الله اسمه سليم عيّاش، هو قاتل الرئيس رفيق الحريري. وامتنعت عن إدانة المتّهمين الثلاثة الآخرين من حزب الله، بسبب عدم كفاية الأدلّة وليس بسبب براءتهم، رغم ربطهم بعملية التنفيذ من خلال المراقبة والتواجد والتواصل مع الشبكة المنفّذة. لكن لم تتمكّن المحكمة من تقديم أدلّة “لا يرقى إليها الشكّ”.
على المتحكّمين في “الرأي العام”، أحزاباً وسياسيين، إعلاماً ومحلّلين، أن يركّزوا على أنّ المحكمة افتتحت مساراً تاريخياً جديداً، وهو أنّ القاتل السياسي لم يعد “شبحاً”
فهل كان عيّاش يراقب الحريري لأسابيع وأسابيع، ويقود شبكة لتنفيذ اغتيال بهذا الحجم، دون معرفة قيادة حزب الله، ودون موافقتها، من حارة حريك إلى طهران؟ والمخابرات السورية التي كانت تعرف كلّ رجل متى يقترب من زوجته أو يبتعد عنها، مرّت عملية بهذا الحجم دون معرفة عشرات الآلاف من جنودها ومخبريها، من أضيق زاروب شمالاً إلى أوسع منصب في العاصمة إلى آخر شجرة في الجنوب؟
المحكمة أثبتت أنّ حزب الله قتل رفيق الحريري. لكنّ الإحباط الذي عمّمه الإعلام السيادي، والمتعاطف مع رفيق الحريري، والمستوى السياسي كذلك، كان خاطئاً بشكل استراتيجي، بل أقرب إلى التآمر مع خصوم المحكمة، من جمهور القاتل ومناصريه.
لم يفتِ الأوانُ بعد. يمكن أن تقلب الطاولة بسرعة. على المتحكّمين في “الرأي العام”، أحزاباً وسياسيين، إعلاماً ومحلّلين، أن يركّزوا على أنّ المحكمة افتتحت مساراً تاريخياً جديداً، وهو أنّ القاتل السياسي لم يعد “شبحاً”. بات له اسم وصورة: سليم عيّاش. وهناك محكمة أممية أدانته. علّ ورثته من القتلة، أحزاباً وأفراداً، يفكّرون مرّتين قبل أن يضغطوا على زرّ التفجير.
لم يفتِ الأوانُ بعد.