في زيارةٍ هي الثالثة من نوعها في أقلّ من عام، يحطّ وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في بيروت اليوم، حيث يلتقي عددًا من المسؤولين، على رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، فضلاً عن قائد الجيش جوزيف عون.
وتثير الزيارة، التي لا تُعَدّ “سابقة” من نوعها، العديد من علامات الاستفهام حول أهدافها وخلفيّاتها، لا سيّما أنّها تأتي بعد ساعات على عودة الرئيس المكلّف إلى البلاد، لكن من دون أيّ أجواء توحي بحدوث أيّ “خرق” في الملفّ الحكوميّ، منذ أن اصطدمت مبادرة رئيس البرلمان بـ”حاجز” الوزير جبران باسيل، الذي رفض اعتبار برّي “وسيطًا”.
وكما في الزيارة السابقة التي جرت في شباط، بعد زيارةٍ أولى بعيد انفجار مرفأ بيروت المروّع في آب، ثّمة من “يستشفّ” من الزيارة حراكًا قطريًا متجدّدًا، علمًا أنّ فكرة رعاية الدوحة لحوار لبنانيّ-لبنانيّ لا تزال مطروحة، لعلّه يفضي إلى “اتفاق دوحة” بصيغة جديدة، قد تكون قطر الأقدر على صياغته، بفضل العلاقات التي تنسجها مع مختلف الأطراف.
اهتمام قطريّ بلبنان
في المبدأ، وبصرف النظر عن هذه التفاصيل، لا يمكن قراءة زيارة وزير الخارجية القطري بمعزَلٍ عن سياق اهتمام قطر بلبنان، ومواكبتها لأزمته منذ اليوم الأولى، وهو ما تجلّى بالزيارتين السابقتين للمسؤول القطري، ولكن أيضًا باستقبال الدوحة للعديد من المسؤولين اللبنانيّين خلال الأشهر الأخيرة، منهم الرئيس الحريري، وكذلك رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، إضافة إلى تصريحات أمير قطر الشيخ تميم بن حمد وما تحمله من دعم ثابت للشعب اللبناني.
وترجم هذا الاهتمام القطري بلبنان، بعيد انفجار المرفأ، حين تعهّدت الدوحة بإعادة إعمار عدد من المدارس والمستشفيات والوحدات السكنية التي تضرّرت أو تدمّرت جزئيًا أو كليًا بفعل التفجير الآثم، وهو ما يُضاف إلى المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية والتعليمية التي تقدّمها الدوحة للبنانيّين بصورة دوريّة، منذ حرب تموز وما قبلها وما بعدها، وقد انعكست بشكل واضح في الشعار الشهير الذي لا يزال يكرّره البعض، “شكرًا قطر”.
وقد لا يكون هذا الاهتمام بعيدًا عن “أجندة” زيارة وزير الخارجية القطري، والتي تضمّ ضمن جدول أعمالها لقاءً لافتًا مع قائد الجيش العماد جوزيف عون، والذي يرجّح البعض أن يتناول بالتفصيل المساعدات التي يمكن أن تقدّمها الدوحة إلى الجيش اللبناني، على المستوى العسكري واللوجستيّ، لا سيما في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، وفي ظلّ المخاوف التي تمّ التعبير عنها مؤخّرًا من “فوضى أمنية” قد تشهدها البلاد في القادم من الأيام.
لا “اتفاق دوحة” جديد؟
لكنّ الاهتمام القطري بلبنان، الذي يتوّج بزيارة وزير الخارجية الثالثة إلى لبنان في أقلّ من عام، لا يعني أنّ ظروف “اتفاق دوحة” جديد قد نضجت، علمًا أنّ المسؤول القطري كان واضحًا في زيارته الأخير قبل أشهر، حين “دحض” كلّ ما أثير في هذا السياق، مشدّدًا على أنّ قطر لا تسعى لنسف المبادرة الفرنسيّة، ونافيًا وجود أيّ “مبادرة” لدعوة المسؤولين اللبنانيين إلى الدوحة لعقد حوار في ما بينهم.
ويقول العارفون إنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ هذا الموقف لا يزال “ثابتًا”، خصوصًا أنّ قطر التي عادت قبل فترة إلى “الحضن العربي”، لن تقوم بأيّ جهد في لبنان أو غيره من تلقاء نفسها، في حين أنّ كلّ الدلائل تؤكّد أنّ سياسة “تجاهل لبنان” لا تزال هي الطاغية عربيًا، ولا سيما خليجيًا، من دون أن تسري بطبيعة الحال على الجانب “الإنسانيّ”، حيث لا تزال الدول العربية متمسّكة بمبدأ حماية اللبنانيين من السقوط المريع، وإن كانت تعتبر أنّ على قادة لبنان أن يبادروا.
من هنا، لن تكون السياسة غائبة عن لقاءات وزير الخارجية القطري، الذي سيحثّ مختلف الأفرقاء في لبنان من جديد إلى التعاون والاتفاق على تشكيل حكومة “إنقاذ” تشرع بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، لكنّ الأمر قد لا يرقى إلى مستوى “المبادرة الجديدة”، ولو أنّ هناك من يجزم بأنّ قطر لن تتردّد في لعب أيّ دور إذا ما وجدت أنّ مقوّماته متوافرة، وضمنت نجاحه، حتى لا تمنى بالخيبة كما حصل مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مثلاً.
قد يكون “نافرًا” أن “يتوسّل” البعض في الداخل تدخّلاً خارجيًا لتأليف الحكومة، ولو بالفرض، فيما يرى الخارج هذا الأمر “شأنًا داخليًا بحتًا”. هي مشكلة في المبدأ ربما، لكنّها قبل كلّ شيء، مشكلة في “العقليّة اللبنانيّة”، التي تتعلّق بأيّ حركة دوليّة، وكأنها “الفرج”، في حين أنّ الخطوة الأولى لا يمكن أن تصدر إلا من الداخل، على أن تحمل، إذا ما كانت موفّقة، “كلمة سرّ” الدعم الإقليميّ والدوليّ الموعود للبنان…