أيًّا تكن المواصفات التي تُطلق على جريمة الرابع من آب 2020، وهي كثيرة من حيث خطورتها، تبقى قليلة قياسًا إلى حجم المسؤولية التي يجب أن يتحمّلها جميع المسؤولين، وصولا الى الذين لهم علاقة مباشرة بأمن المرفأ وإدارته اللوجستية.
فأمام هول هذه الجريمة وما خلّفته من مآسٍ موصوفة، بشرًا وحجرًا، وما تركته من صور دراماتيكية لا تزال ماثلة أمام جميع الذين عايشوا تلك اللحظات الرهيبة، وهي صور لا يمكن نسيانها بسهولة، على رغم قول البعض أن الوقت كفيل بالتخفيف من وقع المأساة ولكن ليس على الأم الثكلى، وعلى الأب المفجوع، وعلى الحبيب الملوع، والصديق الملهوف.
ما حصل في ذاك اليوم المشؤوم كان يومًا لم تشهد له العاصمة بيروت مثيلًا له، على حدّ ما أخبرني به أحد الأصدقاء الذي عاين هول المأساة لحظة وقوعها، فقال لي إنه من غير الممكن وصف تلك اللحظات الرهيبة، التي بدت وكأن زلزالًا عاصفًا ضرب بيروت مرّة ثانية بعد زلزال العام 551 ميلاديا، الذي زعزع أسس أهم مدينة، التي أطلق عليها لقب “بيروت أم الشرائع”.
صحيح أن الحرب اللبنانية ببشاعتها وقذارتها تركت بصماتها البشعة على لؤلؤة البحر البيض المتوسط، التي تغنّى بها الشعراء، وكانت قبلة السياح وعشاق الجمال، ولكن ما شهدته بيروت في لحظات كان أقسى وأعتى من دمار حرب دامت سنوات.
أمام هول هذه المأساة وفظاعتها تسقط كل الإعتبارات والحصانات، وتسقط معها كل الذرائع والتبريرات، وذلك من أجل كشف الحقيقة المطلقة، وإطلاق يد القضاء، وعدم التدّخل في مسار التحقيق العدلي، وترك القاضي طارق البيطار يُكمل ما بدأ به، على أن يبقى كل مشكوك بأن له ضلعًا في المسببات، مباشرة أو بالواسطة، متّهمًا حتى تثبت برأته، وإن كان سيلحق بالبعض القليل من الإجحاف والمظلومية. فمن تثبت براءته يُسجّل له تجاوبه مع التحقيق. ومن تثبت تهمته يُدان أمام الناس والتاريخ. المهمّ أن يُترك القضاء يقوم بعمله، وألا تكون التدخلات السياسية سببًا لتمييع التحقيق وإخفاء معالم الجريمة، التي لا بدّ من أن يكون هناك من مسؤول عنها، سواء أكانوا فاسدين، وهم كثيرون، أم مقصّرين، وهم لا يعدّون ولا يحصون.
لا أحد يصدّق أن هذا الإنفجار هو من صنع الأشباح، أو هو وليدة الصدف والأقدار. بالطبع هو ليس قضاءً وقدرًا، بل هو ناتج عن مسؤولية تراكمية، منذ اللحظة الأولى، التي أدخلت فيها مواد نيترات الأمونيوم بهذه الكميات الكبيرة إلى مرفأ بيروت، وتخزينها في عنابر المرفأ من دون حسيب أو رقيب. حتى أنه لم يُعرف حتى كتابة هذه السطور من أدخل هذه المواد المتفجرة والخطيرة، ومن هي الجهات التي كانت تستفيد منها، ولماذا تُركت طوال تلك المدّة من دون أن يحرّك أي من المسؤولين ساكنًا، ولماذا كانت كرة المسؤولية تقذف جزافًا ومن دون هوادة من هذه الجهة على تلك، ولماذا لم تتحرك الأجهزة الأمنية طوعًا من دون أوامر مسبقة للكشف عن هذه المواد الشديدة الخطورة؟
في الذكرى السنوية الأولى لجريمة العصر، التي لم تحرّك ضمائر المسؤولين، الذين لا يزالون بتعاطون مع مسبباتها ونتائجها بكثير من الخفّة واللامبالاة، وكأن لا قانون يحمي السمك الصغير من السمك الكبير، أو كأننا في غابة يأكل الكبير ما إستطاع إليه سبيلًا حتى ولو كان ضحاياه من الأبرياء.
في هذه الذكرى الأليمة فلتسقط كل الأقنعة، وليرفع سيف العدالة فوق رؤوس الجميع، ولتكن محاسبة الفاسدين والمقصرّين والمهملين بداية طريق إستعادة القضاء لهيبته، ولتثبيت العدالة وفرضها بقوة الحق والقانون،علّ ذلك يخفّف عن أهل الشهداء بعضًا من هول ما اصابهم وخسارتهم التي لا تعوّض، لأن الجمرة لا تكوي إلا مطرحها.