ما إن أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من عين التينة، بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، أنّه “غير معنيّ” بما يُحكى عن “تسوية ومقايضة”، حتى كرّت سبحة التحليلات والتفسيرات والتكهّنات، معطوفة على الإشاعات حول مضمون اللقاء “العاصِف”، وما دار بين الرجلين، والتي وصلت إلى حدّ الحديث عن “استقالة” مرتقبة.
دفع الأمر المكتب الإعلامي للرئيس ميقاتي إلى إصدار بيان “توضيحي” حسم فيه موقفه، بعيدًا عن لغة المصادر التي طغت في الساعات الماضية، حيث أكّد رفضه التدخل في عمل القضاء بأيّ شكل من الأشكال، أو اعتبار مجلس الوزراء “ساحة لتسويات تتناول مباشرة أو بالمواربة التدخل في الشؤون القضائية بالمطلق”، مشيرًا إلى أنّه أبلغ هذا الموقف “الذي لا لبس فيه” إلى كل من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
بالموازاة، كان لافتًا تأكيد الرئيس ميقاتي في بيان مكتبه الإعلامي، أنّه “مستمرّ في مهامه وفي جهوده لحلّ قضية استئناف جلسات مجلس الوزراء”، وأنّ أيّ موقف قد يتّخذه لاحقًا “سيكون مرتبطًا فقط بقناعاته الوطنية والشخصية وتقديره لمسار الأمور”، ما شكّل برأي كثيرين ردًا مباشرًا على “سيناريو الاستقالة”، الذي يبدو مُستبعَدًا لاعتبارات وأسباب كثيرة، أولها “مصلحة البلد” الذي قد تجرّه أيّ خطوة من هذا النوع اليوم إلى ما لا تُحمَد عقباه.
موقف “مبدئي”
صحيح أنّ الموقف “الغاضب” المقتضب الذي أطلقه ميقاتي من عين التينة، أثار الكثير من الالتباس، وفتح باب “التكهّنات” على مصراعيه، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذا الموقف، معطوفًا على ما ورد في بيان المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة، لم يحمل جديدًا، بل يمكن اعتباره “مبدئيًا”، وقد كرّس “الثوابت” التي لطالما رفع الرئيس ميقاتي رايتها.
قال ميقاتي إلى يرفض “المقايضة”، وهو ما “يتناغم” أساسًا، وفق ما يؤكد العارفون، مع ما يقوله منذ اليوم الأول لانفجار “الأزمة” داخل حكومته، حين أصرّ وزراء “الثنائي الشيعي” على “تنحية” المحقق العدلي القاضي طارق البيطار لاستئناف جلسات مجلس الوزراء، فكان ردّه أنّ مثل هذا الأمر غير وارد، لأنّه أولًا ليس من صلاحيّات الحكومة، وثانيًا تدخّل بما لا شأن للحكومة به، فضلاً عن كونه يشكّل “مخالفة فاقعة” لمبدأ دستوري يقوم على فصل السلطات.
انطلاقًا من ذلك، كان من الطبيعي أن يرفض رئيس الحكومة أيّ “مقايضة” تقوم على تدخّل بالشؤون القضائية، وتحوّل مجلس الوزراء إلى “ساحة” تبصم على “التسويات” التي تُبرَم خارجه، علمًا أنّ ما سُرّب عن “توسيع” آفاق “التسوية” لتشمل بعض التعيينات من هنا وهناك زاد الطين بلّة، ليس فقط للحسابات “الشعبوية” الانتخابية التي تحرّك البعض، ولكن أيضًا لتكريسها منطق “المحاصصة” الذي ينبغي على الحكومة أن تحاربه.
الطرق غير مسدودة
بيْد أنّ إعلان الرئيس ميقاتي أنّه “غير معنيّ” بالتسوية، أو “تبرّؤه” منها كما يحلو للبعض توصيف الأمر، لا يعني أنّ طرق الحل قد سُدّت بالكامل، بدليل ما جاء في بيان مكتبه الإعلامي حول “الشروط” التي ينبغي على أيّ حل أن يستند إليها، وأساسها أن يكون تحت سقف أحكام الدستور دون سواه، ولا يشكّل بطبيعة الحال التفافًا على عمل المؤسسات.
ولأنّ الرئيس ميقاتي أعلن في بيانه أيضًا، استمراره في الجهود المبذولة لاستئناف جلسات مجلس الوزراء، فإنّ أمر “الاستقالة” التي روّج لها البعض بات بحكم “المُستبعَد”، علمًا أنّ متابعين يؤكدون أنّ مثل هذا الأمر “ليس واردًا”، ولو أنّ البعض استخفّ بالأمر، من باب أنّ الحكومة في “غيبوبة”، و”شبه مستقيلة” من مهامها، طالما أنّها معطّلة ومشلولة من الداخل، ولم تعقد أكثر من ثلاث جلسات منذ ولادتها حتى اليوم.
لكن، رغم كلّ ذلك، فإنّ الأكيد أنّ الرئيس ميقاتي “لن يفرّط” بالحكومة، طالما أنّ هناك “بارقة أمل” بعودتها إلى السكّة السليمة، مهما كانت ضئيلة، لأنّه يدرك أنّ “البديل” غير متوافر، وقد لا يكون سوى الفوضى، خصوصًا أنّ مجرّد التفكير بتداعيات الاستقالة في الوقت الحالي على البلد، وعلى سعر الدولار، قد يكون مرهقًا من الناحية النفسية قبل المادية، لكنّ المطلوب من باقي الأفرقاء أن يلاقوه في منتصف الطريق، بدل وضع العصيّ في الدواليب.
لن يفرّط الرئيس ميقاتي بالحكومة، وسيستمرّ بجهوده لحلّ قضية استئناف جلسات مجلس الوزراء. لا شكّ في ذلك، لكن لا شكّ أيضًا أنّ التعطيل لا يمكن أن يستمرّ إلى ما شاء الله، لأنّ الحكومة لا يمكن أن تبقى “عاجزة” عن فعل شيء، فيما المطلوب منها كثير، وهو ما يدركه رئيس الحكومة، الذي لن يدّخر جهدًا في الحلّ، لكنّه لن يتأخّر في “قلب الطاولة” متى شعر أنّ الأبواب سُدّت، وأنّ لا حلول في الأفق بالمُطلق!