بعد مخاضٍ طويل، نجح رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي في إعادة وضع علاقات لبنان مع دول الخليج على السّكة الصحيحة. ضمنياً، الأمرُ هذا ارتبط بأمرين أساسيين: الأوّل اصرار ميقاتي على الحوار مع دول الخليج وإن عبر اتصالاتٍ غير مباشرة لحلحلة المسائل العالقة، والثاني تيقّن السعودية ودول الخليج تماماً بأن لبنان دولة لا يمكن التفريط بها أبداً وسط الانهيار القائم.
خلال الفترة القليلة الماضية وتحديداً بعد تدخل فرنسا على خطّ الحل بين السعودية ولبنان في شهر كانون الأول الماضي، بدأت إشارات الحل تصلُ إلى لبنان، وكانت الأمور في بدايتها بطبيعة الحال. إلا أن الأمر الأساس الذي ساهم في تطوير تلك الإشارات هو كيفية تعامل ميقاتي معها بشكلٍ إيجابي، ما شكّل صورة واضحة المعالم لدى الخليج وفرنسا بأن لبنان وحكومته على تمسك تام بإحياء العلاقات وإعادة تكريس دور لبنان من جديد عربياً ودولياً.
كلّ ذلك كان أساسياً لإرساءِ مرحلة متقدّمة وجديدة، في حين أن السعوديين والفرنسيين ركزوا على دور “حزب الله” في لبنان، كما أنّ الانتخابات النيابية لم تكن أبداً بعيدة عن الحسابات، وهي من أكثر الأمور التي ساهمت في تحسين المواقف الخليجية حيال لبنان وبلورةِ النظرة الجديدة باتجاهه.
فعلياً، كانت الانتخابات محطة واضحة لرصدِ التبدلات والتحولات التي قد يشهدها لبنان، لاسيما وسط ما يقال عن وجود إمكانية لسيطرة “حزب الله” الكاملة على مفاصل الحكم. حتماً، كانت جميع الكتل السياسية “خائفة” من عدم وجود جديّة لإجراء هذا الاستحقاق وسط الانهيار المتمادي، فجاءت حكومة ميقاتي لتكسر كل المخاوف وتباشر فوراً بالتحضير للانتخابات رغم كل العوائق والعراقيل التي طرأت. ومن دون أدنى شك، تمكن رئيس الحكومة من إرساء ثقة دوليّة بلبنان بعدما أظهر أن إصراره على صون الاستحقاقات الدستورية كبيرٌ وعميق.
إثر ذلك، بدأت الأنظار تلوحُ باتجاه الطائفة السنية التي تمثلُ ثقلاً وجودياً وشعبياً وانتخابياً في لبنان. بالنسبة للسعودية، فإنّ هذه الطائفة في لبنان لم تكن أبداً بعيدة عنها، وهي امتدادٌ للعالم العربي على المدى التاريخي. أما الأمر الأهم فهو أنّ الطائفة السنية لم تنزلق أبداً باتجاه فتنة أو حرب، وهو الأمر الذي ساهم بتماسكها وعدم تفككها أو تبددها.
من وجهة نظرِ مرجع سياسي كبير، فإنّ السعودية لا تريدُ ترك السنة في لبنان لمصيرهم، في حين أنها رأت ولمست تأثيراً كبيراً لتلك الطائفة على مسار الانتخابات النيابية، إما بالمقاطعة أو بالمشاركة. ويضيف المرجع في حديث لـ”لبنان24″: “أيضاً، كشف مسار مفاوضات الانتخابات والمشاورات التي أجرتها باريس في الداخل اللبناني، أن حزب الله لم يتوسّع أبداً في إنشاء تحالفات تسيطرُ على الساحة السنية بعد عزوف قياداتها عن الترشح للانتخابات النيابية، الأمر الذي ترك بعض الإشارات المطمئنة. كذلك، فإن الحزب أقرّ عبر قنواته السياسية بأنه لن يكون على صدام مع السعودية ولا يرفض وجودها في لبنان طالما أن لذلك مصلحة وطنية، في حين أن الأمر الأهم هو أن توجهات الحزب وحلفائه كانت بعيدة عن منحى صدام داخلي مع الطائفة السنية من جهة، وليست ذاهبة باتجاهِ سيطرة على الحُكم بقدر ما أن الأمور ستتخذ طابعاً تشاركياً له على مبدأ تسوية جديدة سيكون السُّنة هم الأساس فيها”.
إنطلاقاً من كل ذلك، رسمت فرنسا خطوط الحل من أجل لبنان، وما يتبين هو وجود تأكيد كامل على ضرورة الاهتمام بلبنان وإعادة رسم العلاقات معه على قاعدة التوافق والالتزام بالانتماء بالخط العربي. الأمرُ هذا يحتاجُ بشكل كبير على حكومات تضمن هذا الأمر، وكل ذلك يقترن بتوافق سياسي على عدم المسّ بثابتة واحدة وهي الحفاظ على العلاقات العربية مهما كانت التبدلات و التغيرات.
بشكل أكيد، يعتبرُ تدخل السعودية اليوم أساسياً وضرورياً لعدم سيطرة أي أطرافٍ أخرى على لبنان، إما مالياً عبر سلطة سياسيّة. وهنا، فإن المشكلة كانت ستكمن في جهاتٍ لبنانية تسعى لأن تكون مسيطرة على الساحة السنية في حين أن لديها ارتباطاتٌ خارجية مناوئة للسعودية وخطّها. كذلك، فإنّ إبقاء الساحة السنية من دون قيادة واضحة، سيجعل الأطراف الأخرى على مقربة من التوغل فيها، ما يجعل القدرة على إعادة جمعها صعبة جداً. ولهذا، سيأتي التحرك السعوديّ من أجل لبنان إنقاذياً، وعدم ترك الساحة لأحد وتحديداً “حزب الله”، وهو الشعار الذي سيكون بارزاً بشكل كبير خلال المرحلة المقبلة. وبسبب كل هذا، ستكون لعودة الدور الخليجي اسهامات كبيرة في تعزيز وانتعاش الأوضاع الاقتصادية في لبنان، وكل ذلك يعتبرُ مطلوباً في الداخل باعتبار أنه كانت للخليج الإسهامات الكبرى في صمود الاقتصاد اللبنانية، إما عبر الودائع المالية أو التحويلات من المغتربين اللبنانيين هناك أو عبر الدعم السياسي والاقتصادي. وعليه، فإنه مع تحقق التقدّم الأكيد، فإن لبنان سيخرج من عزلته، وبالتالي سيكون ذلك بداية للحل القريب وسط تسوية شاملة وواسعة.