قد تكونُ المشكلة الأكبر في ملف حادثة العاقبية التي حصلت مع قوات “اليونيفيل” قبل أيّام، هي “السيناريوهات” والتأويلات التي يتم طرحُها من كلّ حدبٍ وصوب. حقاً، الأمرُ هذا يزيدُ من النيران اشتعالاً، كما أنّه يُضاعف حدّة المواقف ويُصعّب القضية أكثر فأكثر. بكل قوة، فإنّ كل المشهديّة المُتداخلة ببعضها ترتبطُ بشكلٍ وثيقٍ بـ”المُزايدات” التي حذر منها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، أمس الإثنين، مؤكداً أن الجيش يُجري التحقيقات اللازمة في الحادثة التي أدت إلى مقتل عنصر من الكتيبة الإيرلندية وجرح 3 آخرين”، وقال: ” مرفوض الاستخفاف بخطورة ما حصل او اعتباره حادثاً عادياً أو عرضياً. الحادثة يجب أخذها بجدية وإجراء كامل التحقيقات والمحاسبة”.
من يُراقب مسارَ الحادثة وكل الكلام الذي ارتبط بها، إنّما سيلاحظ وجود هدفٍ لجرّ الأمور إلى مكانٍ لا يريد أي طرفٍ مرتبط بالحادثة الوصول إليه، والمقصودُ هنا قوات “اليونيفيل” و “الثنائي الشيعي” حركة “أمل” و “حزب الله” بشكلٍ خاص. من يراقب الصحافة الإيرلندية مثلاً، إنّما سيرى أن “ماكيناتها” قد هدأت في التطرّق إلى الحادثة. فهناك، أطلقت الدولة مواقفها العادية التي لم تتجاوز السقف الطبيعي، فلم تتهم أحداً بما حصل، تاركة المجال للتحقيق. حتماً، الإيرلنديون التزموا القول المأثور الذي يقول: “واستعينوا بقضاء حوائجكم بالكتمان”، أي أنهم وضعوا كل التركيز حالياً وبـ”صمت” على التحقيق من أجل الوصول إلى النتائج المطلوبة، وطبعاً بالتنسيق مع قوات “اليونيفيل” ومخابرات الجيش. أمّا في لبنان، فانهالت “التأويلات” والاتهامات على مختلف الأصعدة، فمن جهة أراد البعض تصوير “حزب الله” بأنّه يقف “تنظيمياً” وراء الحادثة، وتارة أخرى جاء البعض ليقول بأنّ الحزب يتستّر على المتورطين. في المقابل، فإنّ المقربين من الحزب لم يهدأوا أيضاً من خلال “التنقير” على رواية “اليونيفيل” والإشارة بشكل غير مباشر إلى أن الآلية التي تعرّضت للاعتداء لم تضلّ طريقها بشكلٍ بريء، بل كان هناك هدفٌ من وراء هذا الأمر. وأمام هذا الكلام، بدأ التفسير على النحو التالي: “حزب الله” يُشرّع القتل، ويؤكّد أن ما حصل هو مُبرّر.. وحقاً، كل ذلك خارجٌ عن المنطق، ويزيدُ من الأمور تعقيداً.
لحسمِ الجدل الدائر بشأن حادثة العاقبية، فإنّ ما يجب الوقوف عنده هو الأمور التالية التي تمهد الطريق نحو الحقيقة الكاملة وهي:
أولاً: الحادثة وقعت وهي جرسُ إنذارٍ خطير ويجب التعامل معها بحكمةٍ ورويّة لأنّ الطرف فيها هو قوات “اليونيفيل” والدولة اللبنانية من جهة، والجنوب و “حزب الله” من جهة أخرى. وفي حال وقع التناقض بين هذه الأطراف، عندها ستكونُ الخسائر موجعة.
ثانياً: ليس من مصلحة “اليونيفيل” أن تزيدَ من التهويل، وحقاً هي لم تفعل ذلك ولم تتهم أحداً ولم ترفع سقف التحدي بوجهِ أي طرف. في الواقع، قد تكون قيادة “اليونيفيل” هي الأكثر عقلانية من مختلف القيادات السياسية التي تسعى للاستثمار بالحادثة بغية تحقيق مكاسب سياسية على “طبقٍ من فضّة”.
ثالثاً: ليس من مصلحة “حزب الله” الوقوف في وجهِ “اليونيفيل” وتحديداً في الجنوب، سواءً كانت العملية في نطاق عمليات القوات الدولية أو خارجها. فالمسألة لا ترتبطُ بنطاقٍ عمليات، بل تتصل بما هو أهم: دور القوات الدولية وأساسها وجودها لتطبيق القرار 1701.
ثالثاً: في حال سلّمنا جدلاً أنّ القوات الدولية كانت تسعى لإتمام عملية أمنية في العاقبية، وفي حال سلّمنا جدلاً أنّ الكلام عن إضاعة الطريق كان مقصوداً وليس بريئاً.. فإن السؤال الذي يُطرح: لماذا ستُبادر “اليونيفيل” إلى القيام بهذا الأمر خارج نطاق عملياتها وفي وقتٍ كانت فيه الناس تتُابع مباراة جماهيرية في المقاهي الموجودة في المكان؟ من قال أصلاً أن دور “اليونيفيل” هو التجسّس على “حزب الله” ومن قال أيضاً إن “اليونيفيل” تسعى للاصطدام مع الأخير؟ فبديهياً، إذا كان الأمر كذلك، فإن المنطقة الأكثر خطورة هي داخل عمليات “اليونيفيل” حيث الانتشار الكبير والأساسي لـ”حزب الله”.. هناك، يمكن القول أنّ بنك المعلومات وافرٌ، علماً أن العدو الإسرائيلي لا يدّخر جهداً لكشف أي معلومة عن الحزب ومواقعه، وهو ليس بحاجة إلى “اليونيفيل” للقيام بذلك لا الآن ولا سابقاً ولا لاحقاً.
رابعاً: إذا سلّمنا جدلاً أيضاً أنّ “القوات الدولية” سعت لاستطلاع مخزنٍ للسلاح أو مكانٍ للصواريخ.. فهل ستفعلُ ذلك بشكل مكشوف وسط وجود الأهالي؟ هل “حزب الله” ساذجٌ لهذه الدّرجة لتخزين أسلحة وصواريخ في مكانٍ عام ومعروف؟ وهل “القوات الدولية” ساذجةٌ أيضاً لدرجة أن تقوم بعملية أمنية عبر سيارة واضحة المعالم وفيها 4 أفرادٍ كانوا يتجهون إلى مطار بيروت وضلوا الطريق؟ حقاً، الأمرُ مُستهجنٌ تماماً ولا يمكن وصفه إلا بـ”السيناريوهات الساقطة”.
في أساسِ الأمر كلّه، فإنَّ ما حصلَ قد يكونُ رسالةً واضحة باتجاه أمرٍ معين، وهو أنّ عودة الجيش لمواكبة قوات “اليونيفيل” هو أمرٌ ضروري ويجبُ بحثه دولياً ولبنانياً.. فأولاً، يُطمئن هذا الأمر “اليونيفيل” وغيرها، ويزيدُ من الأمن والأمان في مختلف المناطق، ويكسرُ من حدّة التوتر. في المقابل، فإنّ ما جرى لا يمكن التقليل من أهميته، والعينُ هنا على المتورّط.. فبشكل واضح، كشفت الحادثة أن إطلاق النار كان من قبل “مُتخصص” في تسديد الرماية، والدليل أن الرصاصة اخترقت الآلية واستهدفت السائق أثناء هربها. ولهذا، فإنّ تسليم المتورط بإطلاق النار سيكونُ مقدّمة لحلحلة ولـ”ضبضبة” الأمر، وهذه الخطوة قد تتأخر في الوقت الرّاهن ومن المُمكن أن تتوافر تسوية لذلك.. فلا “اليونيفيل” بوارد الدخول بصدامٍ مع “حزب الله” ولا الأخير يريد ذلك.. وحقاً، هذه هي الحقيقة الكاملة بعيداً عن “المزايدات” السياسية.