الجرح الدامي والنازف في جنوب لبنان انتقل طبيعيًا من سنة 2023 إلى سنة 2024، ومن الجنوب نقل العدو وجهة المواجهة إلى الضاحية الجنوبية عبر استهداف أكثر من مسؤول قيادي في حركة “حماس” – فرع بيروت. وهذا الأمر من شأنه أن ينقل المواجهة إلى نقطة اللاعودة في الصراع القائم بين اسرائيل و”حزب الله” بعد سقوط ما يسمّى “الخطوط الحمر”، وبعدما أطاح العدو الاسرائيلي بكل الامكانات التي كانت متاحة قبل هذا الاستهداف.
Advertisement
وحدهم مقاتلو “حزب الله” البعيدون عن أهلهم لم يستقبلوا السنة الجديدة كما استقبلها سائر اللبنانيين، الذين تعالوا عن جراحاتهم الكثيرة وقرروا أن يتحدّوا الموت بمزيد من الإصرار على حبّهم للحياة بكل ما فيها من مشاكل ومآسٍ وفرح وحزن وآمال وتطلعات. وما يدفعه الجنوب وأهله من ضريبة ربط مصيرهم بما يجري على مسافة غير بعيدة عنهم في غزة المتألمة قد يدفعه جميع اللبنانيين في حال لم تنجح المساعي الديبلوماسية في ردع الذين لا يردعهم شيء.
هي جدلية سياسية قائمة ومستمرّة بين مؤيدي دعم أهل غزة ومساندتهم بالحديد والنار عبر فتح الجبهة الجنوبية المفتوحة أساسًا على كل الاحتمالات، وبين الذين هم مع تقديم كل دعم معنوي ورفع الصوت في كل المحافل العربية والدولية من أجل نصرة “الغزاويين” في حربهم الجهادية ضد عدو لا يعرف الرحمة ولا تعني له الإنسانية أي شيء.
فالذين يؤيدون “حزب الله” في حرب المساندة يرون أن العدو الإسرائيلي لا يفهم سوى لغة القوة، وهو لن يرتدع إلا إذا وجد من يقف في وجهه ويمنعه من تحقيق ما يصبو إليه، سواء في غزة والضفة الغربية أو في الجنوب.
أمّا الذين يعارضون هذا التوجه، وهم في الأساس ضد أي سلاح غير السلاح الشرعي، ومع تطبيق القرار 1701، الذي يعتبرون أنه وحده القادر على حماية لبنان من أي غزو إسرائيلي، لا يزالون يعتبرون أن “الحياد الإيجابي”، الذي طرحه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، هو الحلّ الوحيد المتبقي للبنان لكي يستطيع أن يخرج من أزمته الحالية في الجنوب، الذي انجرّ إليها من دون أن يكون للدولة اللبنانية الممثلة حاليًا بالحكومة الحالية رأي فيها.
فـ “الحياد الإيجابي” الذي دعا إليه البطريرك الراعي، وقد فسرّه البعض على غير حقيقته، سيأخذ مداه في خلال السنة الحالية، انطلاقًا من مبادئ مكرّسة أولًا في الدستور، وثانيًا في الممارسة، التي تمتدّ إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب، حيث استطاع في عزّ “الفورة الناصرية” أن يفرض على أكبر زعيم عربي في حينه لقاء في خيمة على الحدود اللبنانية – السورية.
أمّا في الدستور فإن لبنان الرسمي ملتزم القرارات الدولية وميثاقي الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، وهو يعتبر نفسه جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الأممية. وهذا يعني التزامه بما تجمع عليه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفي المجموعة العربية. وهذا الالتزام هو وجه من وجوه “الحياد الإيجابي”، وهو لا يعني كما يحاول البعض تفسيره لغايات في نفس يعقوب، أي أن ينأى لبنان بنفسه عن الصراع القائم مع العدو الإسرائيلي بكل أوجهه، وبالأخصّ عندما يعتدي على حقوق الشعب الفلسطيني أو عندما يشّن عليه حرب إبادة كما هو حاصل اليوم في قطاع غزة. ولكن هذا التضامن مع الشعب الفلسطيني هو كالتضامن العربي، وبالأخصّ الدول، التي لها حدود مشتركة مع فلسطين المحتلة كسوريا ومصر والأردن.
فإذا كان فتح الجبهة الجنوبية مفيدًا للقضية الفلسطينية أكثر من العمل الديبلوماسي فإن هكذا قرار كان يجب أن تتخذه الحكومة اللبنانية وليس أي فريق من الأفرقاء اللبنانيين باسم جميع اللبنانيين. وهذا هو رأي الذين يتهمون “حزب الله” بجرّ البلاد إلى موقع غير محسوب النتائج، من دون أن يعني ذلك، وفق منطق الذين اعتادوا على تخوين من لا يجاريهم في ما يقومون به، أن إسرائيل لا تسعى إلى توجيه ضربة إلى لبنان بسبب أو من دونه، وهي التي لا تحتاج إلى أي ذريعة لتبرير أي عدوان شامل قد تقوم به.
وعلى رغم انشغالهم بما يجري في الجنوب فإن هذا الأمر لا يعفي نواب الأمة من أن يقوموا بما يفرضه عليهم واجبهم الدستوري والذهاب إلى “ساحة النجمة” وانتخاب “رئيس الفرصة الأخيرة”.