لم يمسني أي من مشاهد الغزوات المتكررة على ساحة الشهداء كما مسني مشهد إحراق وتحطيم خيمة النبطية، أمس واليوم الذي سبقه. فبحجة الانتقام من شتائم سافرت من قارة أخرى لتطال الرموز الدينية لأهل النبطية أنفسهم، انقضّ الشبيحة، “الشيعة”- بالولادة- على من يتغنى بثورة الحسين ويتمثل بها. ودفاعاً عن أهل البيت وما عانوه من ظلم، غزا شباب “الثنائي الشيعي” أهل بيتهم، مضرمين النار بآخر ما تبقى من أحلامهم وآمالهم.
المأوى الأخير
بالرغم من الغضب الذي ينتابني في كل مرة أشتمّ فيها رائحة الشؤم المنبعثة من دخان الخيم المغدورة حطاماً في ساحتي اللعازارية والشهداء، فإنني أكون على يقين أنها ستعود، في اليوم التالي، أجمل وأمتن وأكبر مما كانت. خيمة سيصممها فنانون ومعماريون، أخرى ستزيَّن وتزركش، وثالثة سيتحول ركامها إلى تحفة فنية. أما حراك النبطية، وبالنظر إلى إمكاناته المحدودة من ناحية العتاد والعدة، وإلى المعارك المضاعفة المضطر إلى خوضها في عقر داره، فهو لا يملك ترف بعث طائر فينيق من أنقاض خيمته، في كلّ مرة يجرفها فائض القوة المصبوغة بالقبلية والبلطجية و”الماتشيزمو”.
تجسّد خيمة النبطية المأوى الأخير لأهل المنطقة من الهيمنة السياسية والثقافية الأحادية التي سلبت منهم كل مساحة أخرى للرفض أو الاعتراض. فمع تحوّل الرفض بحدّ ذاته إلى فعل خائن، تمكّن الثنائي الشيعي من بسط سيطرته على الهوية الشيعية الراهنة، وإعادة تشكيلها كما يحلو له. أضحى أهالي النبطية، والجنوب عموماً، رهائن وضحايا هذا المدّ القسري للهوية الشيعية المتجسّدة بالقمصان السود، والتي تتناقض إلى حدّ كبير مع تلك التي كانوا يتحلّون بها منذ عقود قليلة سابقة لدحر العدو الصهيوني، والتي تمّ إفراغها من عناصرها النضالية، إن كان لجهة مقاومة المحتلّ أو مواجهة الظلم الاقتصادي.
“رهافة” أصحاب العصي
ما تبقى من ثقافة النضال من أجل العيش الحرّ هو اليوم في خيمة النبطية، التي أحرقت رغم أن ثوار البلدة واجهوا حملات التخوين والتشهير بإحراق علم إسرائيلي وراء الآخر، واغتنموا كل فرصة ظهور على شاشات التلفاز للدفاع عن المقاومة وسلاحها، كما تظاهروا ضدّ العميل الفاخوري مراراً، ووصل بهم الأمر إلى عوكر للاحتجاج ضدّ تدخل السفارة الأميركية في الشؤون اللبنانية. لم يشتم ثوار النبطية “أهل البيت”، بل إنهم امتنعوا عن الشتائم بكلّ أشكالها، وذلك تجنباً للمسّ بالحسّ الأخلاقي المرهف لـ”مطوّعي” الجنوب. آثر ثوار النبطية ضبط ألسنتهم أمام مغريات توزيع الشتائم على كلّ من كان سبب في أزماتهم، وكتموا توقهم إلى “الهيلا هو” إسوةً بغيرهم من اللبنانيين.
حرم ثوار النبطية أنفسهم من متعة “فشة الخلق”، وتنازلوا عن الشتيمة التي لم يعد لديهم سواها سبيلاً للثأر، وذلك إرضاءً للمبادئ الأخلاقية للذين يغزون الساحات بالعصي في كلّ مرة يتمّ دغدغة مشاعرهم الطائفية. أما في السياسية، فحصر ثوار النبطية هتافاتهم بمصرف لبنان ورياض سلامة وابتعدوا عن الإشارة أو حتى التلميح إلى زعماء المنطقة. ساوم ثوار النبطية كثيراً، وقبلوا بشروط من نصّب نفسه حاكماً عليهم ورقيباً على لغتهم وهويتهم. إلا أن كل مساعيهم الحثيثة إلى تجنب الاستفزاز و”كسر الشرّ” لم تقهم من شرّ الأيادي العابثة بثورتهم.
كفر وتأليه
مع إصابة الشبيحة بهستيريا “الغيرة الدينية”، التي أثارها الفيديو “الموتور” بدوره، لم يبخل هؤلاء بضخ الشتائم التي طالت، بين من طالتهم، الله نفسه. لقّبوا نبيه بري بالنبي مراراً، وجعلوه الإمام الثاني عشر مؤخراً. مثلهم كمثل العونيين الذين انتابتهم أيضاً نوبة إنهيار إثر سماعهم كلمات أغنية مشروع ليلى غير المفهومة، بيد أنهم لم يروا في وضع عون وصهره على جانبي عرش الله أي إساءةً للدين أو كفراً به. فالكفر حكراً عليهم، هم من يحتكرون الطوائف والأديان والمنظومة السياسية بكاملها وما يتفرّع عنها من منظومات اجتماعية وأخلاقية وعائلية.
حتى لحظة تحطيم خيمة النبطية منذ يومين، حافظ حراك المنطقة على نبرة إحتجاجية هادئة، تحوّلت صرخة مدوية أمس في المسيرة التي جابت أنحاء المدينة تنديداً بما يتعرضون له من قمع وإضطهاد ممنهجين. فحتى تلك اللحظة، كانت المنظومة الأخلاقية الفاسدة والمنافقة، بإباحتها لنفسها ما تعيّر به غيرها، لا تزال تضبط لغة وإيقاع غضب الشارع النبطاني. تفجّر هذا الغضب أمس واستحال “الحراك” ثورةً في أوجه أعمدة هذه المنظومة، متجلياً بهتافات تدين البلطجة، هتافات كانت حتى ليلة أمس غائبة عن الخطاب الثوري العلني في المنطقة. تجذّر خطاب ثوار النبطية بفعل التنكيل الذي تعرّضوا له، وما كان على شباب كفررمان سوى حمل العصي دفاعاً عن أنفسهم ضد أبناء منطقتهم، وطائفتهم الواحدة، ليرسوا معادلة جديدة لم تكن مطروحة قبل 17 تشرين، معادلة تصدّي المجتمع الشيعي المعارض في الجنوب لسلطة الثنائي، راعي المنظومة وحاميها.