حيرة الحريري: صواب المعارضة أو “لبن عصفور” السلطة

30 ديسمبر 2019
(الأرشيف)
(الأرشيف)
beirut news

إنها المرّة الأولى التي تتماهى فيها أزمات طائفة “السنّة” مع أزمة زعامتهم. منذ العام 2005 إلى اليوم، تعيش الطائفة السنّية تخبّطاً لم يكن محصوراً بحدود لبنان، لا بل هو انعكاس لما يعيشه السنّة في عموم المشرق العربي. ما بين العامين 2005 و2008 بلغ تماهي الزعامة مع مزاج المجتمع السنّي حدوده القصوى. ما بعد تسوية “سوريا – السعودية” (2009)، بدأ الافتراق مع بداية جنوح تلك الزعامة إلى التسويات والتنازلات. فقبعت البيئة السنّية في حال إحباط، أشعرتها باليتم السياسي محلياً وإقليمياً. واتسع مدى التباعد عندما باتت حسابات “الملك” تتعاكس مع تطلعات “الرعايا” الملتهبة والتواقة إلى تحقيق التغيير.

سيرة الانقلابات
بعد الانقلاب على الرئيس سعد الحريري في العام 2011، استشعر السنّة انقلاباً جديداً عليهم، فالانقلاب الأول كان من قبل الحريري نفسه، حين ارتضى ترؤس حكومة بشروط حزب الله، ثم قيامه بزيارة دمشق وجلوسه بحضرة بشار الأسد. عندها لم يحسن الحريري التعامل مع نتائج الانقلاب عليه. ربما لم يتحمّل ما تعرض له، فغادر لبنان تاركاً تيّاره وراءه بإهمال فادح، ليُصاب التيار بالترهل، بعدما أصيب هو بإحباط أضعفه سياسياً. تلك الصدمة التي تعرّض لها الحريري، أفقدته توازنه السياسي. فأسهم بإضعاف نفسه بنفسه. والمشكلة كانت أن الرجل يومها لم يكن حصراً ممثلاً للسنّة، بل رمز قيادي معنوي لحركة سياسية تخطّت الطوائف.

هنا تتجسد المشكلة في نظرة الحريري للسياسة، والتي هي بالنسبة إليه محصورة بالملك، أو الحكم. هو الخطأ ذاته الذي كررته معظم المكونات السياسية في لبنان، التي قضت على ما يسمّى معارضة لصالح حكومات التسويات و”الوحدة الوطنية”. هذه المعادلة عطّلت كل ما له علاقة بالحياة السياسية الطبيعية (الديموقراطية)، فوجود المعارضة شرط للحياة السياسة وديمومتها. كان خطأ وليد جنبلاط أكبر من خطأ الحريري، في ركونه أيضاً إلى العرف الذي فرضه حزب الله، “الديموقراطية التوافقية”، فارتضى المشاركة في كل التركيبات والتشكيلات الحكومية والسلطوية، طمعاً بما تجلبه السلطة من مقدرة على تقديم الخدمات (النظام الزبائني) والحفاظ على المواقع والمناصب خشية من استيلاء الخصوم عليها.

الأب ونصيحة الملك
كان أداء رفيق الحريري أفضل بكثير من ذلك، خصوصاً بعد الانقلاب عليه في العام 1998. خرج بكل ثقة ووضوح إلى المعارضة. وبدأ التحضير قبل سنتين للانتخابات النيابية التي اكتسحها عام 2000. وحتى قبيل اغتياله، كان يحضر للخطة ذاتها. وكان يقين الجميع أنه سيكتسح الانتخابات مجدداً عام 2005 لولا قتله.

تجربة سعد الحريري مختلفة. إذ ربط وجوده وحصره ببقائه في الحكومة. وهنا تظهر المشكلة ما بعد اتفاق الدوحة، وإصراره على ترؤس الحكومة، إلا أن مساعي الملك عبد الله بن عبد العزيز هي التي لجمته وجاء نجيب ميقاتي. بقي الحريري مصرّاً إلى ما بعد الانتخابات النيابية في العام 2009. سعى كثيراً ليكون بنفسه رئيس الحكومة. وحينها، تلقى نصائح كثيرة أن ينتظر ليكون قوياً في موقعه. في أحد اللقاءات مع الملك عبد الله، ومع إصرار الحريري على ترؤس الحكومة، توجه إليه الملك بالقول: “عليك أن تختار بين الحكومة والمحكمة، لأن ترؤسك الحكومة سيجبرك على تقديم تنازلات كثيرة لخصومك وستكون المسيرة صعبة”. مع ذلك، أصر الرجل على الحكومة، وكانت تسوية “سين سين”، التي انكسرت عند أول استحقاق خارجي، أميركي إيراني.

بعيد الانقلاب عليه، كان رئيس النظام السوري بشار الأسد يريد عودة الحريري إلى الحكومة، وفي تلك الفترة أبلغ الأسد العديد من اللبنانيين بقراره هذا. وهؤلاء بدورهم أبلغوا الحريري بالأمر.. فاطمأن! وعبّر عن سروره باحتمال عودته. لكن القرار الإيراني كان معارضاً للقرار السوري. وطهران هي التي دفعت الأسد إلى تغيير رأيه. ولذلك تأجلت الاستشارات لمدة أسبوع بسبب التضارب الإيراني السوري وللبحث عن رئيس للحكومة. يومها كان بإمكان الحريري البقاء والصمود والاستعداد لمواجهة سياسية يكتسح بعدها الانتخابات النيابية ولكن ذلك لم يحصل.

فرصة جديدة؟
ما يجري اليوم شبيه بالسيناريو السابق. الأهم أن الحريري يجب أن يكون قد تعلّم من التجربة، وعنوانها الأساسي أن وجوده وتأثيره في المعادلة السياسية، لا ينحصر بوجوده في السلطة أو بعدد الوزراء الذين يحصل عليهم. حزب الله يمسك بالمعادلة بوزير أو وزيرين و13 نائباً، وتأثير الحزب ليس مرتبطاً فقط بمعادلة السلاح، إنما لإجادته الإمساك بشارعه وإجادته لعبة المعارضة. وهو عرّاب السلطة والمقاتل في سبيلها. وهذا ينطبق أيضاً على التيار الوطني الحرّ قبل التسوية الرئاسية. إذ تمكن بالاستناد إلى حلفائه وقوتهم وخطابه المتظّلم والمعارض أن يعطل حكومات ويكتسح انتخابات، بدعاية أنه المستهدف. فبقي في صلب السلطة ومسيطراً على خطاب المعارضة في آن معاً.

إنها فرصة الحريري الجديدة للانطلاق مجدداً، وهذا بابه ليدخل إلى المعترك كما دخل والده بعد العام 2000، لا سيما أنه اقتنع بأن التسويات لا تدوم، والسيطرة على الأرض والشارع والبيئة بخطاب سياسي متماسك هو ما يحمي المواقع، وليس العكس.

حسب المعطيات، فإن الحريري يفكرّ على هذا النحو، بعد تكليف حسان دياب بتشكيل الحكومة. وبعد تأخر لأيام خرج عن صمته، وأطلق موقفه الذي هاجم فيه التيار الوطني الحرّ. هذا الخطاب وحده كان كفيلاً بإعادة شد عضد جمهوره وتحلّقه حوله. من الواضح أن الحريري سيمضي في مواجهة حكومة دياب إلى النهاية. خصوصاً أن “شرط الميثاقية” السنّية يفتقدها دياب ورئيس الجمهورية، بينما الثنائي الشيعي بأمس الحاجة إليها.

إنها ورقة سعد الحريري القوية، لكن بشرط أن لا يرميها بعد تحقيقه لهدفه.

يقول الحريري في مجالسه إنه لا يمكنه التعامل مع التيار الوطني الحرّ، ولا بد من مسار سياسي مختلف. طبعاً، هذا الكلام مصيب. لكن الأهم يبقى في كيفية سلوك هذا المسار. هنا تتحدث المصادر عن استعداد الحريري لإجراء “نفضة” شاملة داخل تيار المستقبل، لإثبات فعاليته سياسياً وشعبياً، خارج لعبة المقاعد الوزارية. قد يراهن الحريري على فشل دياب في التأليف، أو على سقوطه، ولكن سيخطئ ويخسر إذا ما عاد حالياً إلى السلطة في هكذا ظروف. فهو قادر على قلب الموازين في الانتخابات المقبلة، ومعركته يجب أن تتركز عليها حصراً.