عالم “حزب الله” و”أمل”: أين المفرُّ ومتى الخلاص؟

27 ديسمبر 2019
يشكّل "الثنائي الشيعي" عالماً قائماً وراسخاً ومكتملاً (الأرشيف، مصطفى جمال الدين)
يشكّل "الثنائي الشيعي" عالماً قائماً وراسخاً ومكتملاً (الأرشيف، مصطفى جمال الدين)
beirut News
حلقة ثالثة من سيرة شاب شيعي جنوبي، تروي شيئاً من حال الحصار الذي تضربه “حركة أمل” و”حزب الله” على الديار الشيعية وأجيالها الشابة في البلدات والقرى الجنوبية. وقد نُشرت الحلقتان السابقتان في 21 و23 كانون الأول الجاري.
وأثناء كتابة هذه الحلقة في الأيام الأخيرة من العام 2019، أصدر الثنائي الشيعي شريط فيديو لأهزوجة جديدة، ربما أنشأ الثنائي لإنشادها كورساً مشتركاً، وجهزا للشريط صوراً من استعراضاتهما العسكرية وعراضاتهما الجماهيرية، لتواكب الأهزوجة بصرياً. وذلك لجبه الرضّة المعنوية التي أصابت المنظمتين في انتفاضة 17 تشرين الأول الماضي، وإعادة ترميم جبهتهما الداخلية، وتجديد عزم رهطهما المشترك في هجماته العنيفة على من سوّلت لهم أنفسهم الخروج على عالمهما وحصونه المضروبة على الديار الشيعية الجنوبية، خصوصاً في صور والنبطية وكفرمان. وسُمِّي الشريط المصور “أخوة بعهد الله”، وينشد الكورس في مطلعه – اللازمة: “مش رح نركع لا والله/القلب بينبض أمل.. والدم حزب الله/أخوة بالسلم وبالحرب/مع نصرالله وبري”.

صروح “أمل” الخاوية
لم يشأ والد محمود، الشاب الذي روى شذرات من سيرته الجنوبية، أن يتعلم ابنه البكر، في مطلع الألفية الثالثة، بمدرسة بلدته الرسمية، القصيبة الجنوبية – قضاء النبطية. فهي كانت “سيئة السمعة، مثل مديرها الفاشل”. لذا سجله في بداية المرحلة الابتدائية بالمدرسة الرسمية لبلدة بريقع القريبة، والتي كانت حسنة السمعة مثل مديرها، ويحصّل تلامذتها نتائج جيدة.

أنا المستمع اليوم (كانون الأول 2019) إلى محمود يروي مقتطفات من سيرته وهو في الثالثة والعشرين من عمره، سرعان ما تبادرت إلى ذهني صور سلسلة صروح المدارس الرسمية الكثيرة التي شيّدت على تلال وروابٍ في القرى والبلدات الجنوبية، على نفقة مجلس الجنوب، وبهمة “حركة أمل” وشبكة بطانتها من المتنفذين ومتعهدي البناء والإنشاءات الحكومية في تسعينات القرن العشرين، وما بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي في العام 2000 من الشريط الحدودي الجنوبي المحتل. وهي صروح عمرانية متضخمة، شيدت استجابة لتحصيل متعهدي أو ملتزمي البناء من حاشية المنظمة الشيعية النافذة، ريوعاً وعوائد مرتفعة من مالية الدولة العامة، أكثر بكثير من استجابتها (الصروح المدرسية) الحاجات التعليمية الفعلية في القرى والبلدات الجنوبية.

والدليل على ذلك شهادات وتحقيقات صحافية، ومشاهدات واستطلاعات شخصية، بيّنت أن تلك الصروح الضخمة غالباً ما ظلت فارغة خاوية إلا من أعداد ضئيلة من التلامذة والطلاب، ومن هيئات تعليمية وإدارية ضخمة وفائضة العدد عن حاجات تدريس التلامذة والطلبة القليلين. وتضخم تلك الهيئات هدفه، شأن الأبنية المدرسية – الصروح، تكثير محازبي “أمل” وتوسيع أعدادهم وشبكات نفوذ الحركة الشيعية في تلك القرى والبلدات وفي أجهزة الدولة، فيما يتقاضى معلمو وإداريو المدارس المتبطلون مرتباتهم الشهرية أو بدلات ساعاتهم التعاقدية من موازنة وزارة التربية.

تربية بيتية رضية
لكن محموداً نفى وجود صرح مدرسي “أملي” في بلدته القصيبة مطلع الألفية الثالثة. فقبل سنوات قليلة شُيّدت ثانوية القصيبة الرسمية على مثال تلك الصروح. أما مدرستها الرسمية القديمة التي شاء والده أن يبعده منها، لسوء سمعتها وفشل تلامذتها، فذكر محمود أنه شاهد على أحد جدرانها لافتة قديمة مهترئة مدون عليها اسمها الذي يرد فيه اسم عائلة عسيران. وهذا يشير إلى قِدم المدرسة، وإلى نفوذ تلك العائلة القديم وملكياتها الواسعة في القصيبة. لكن ذلك القدم محاه ترميم مبنى المدرسة وتجديده بكلفة مليار ليرة، لم تمحُ سوء سمعتها وفشلها التعليمي، ولا زادت عدد تلامذتها عن 45 تلميذاً من السوريين اللاجئين، بعد احتدام الحرب الأسدية على الشعب السوري الثائر.

وفي مدرسة بريقع الرسمية اجتاز محمود بنجاح مرحلة تعليمه المتوسط (البريفيه)، مشيراً الى أن مديرها كان حسن السمعة، وحريصاً على متابعة شؤون المدرسة وتلامذتها مثل هيئتها التعليمية. وكان محمود تلميذاً مهذباً ومجتهداً متأثراً بتربيته البيتية الهادئة التي نشّأه وأخويه وأخته عليها كل من والده المعمرجي (معلم عمار) وأمه، الرضيين المسالمين، والمكتفيين بتحصيل العيش الحلال والسمعة الحسنة في القصيبة، عازفين عن توسل علاقات التسلق الاجتماعي السريع ودبيب شبكاته وولاءاته الحزبية والعائلية في البلدة الجنوبية.

لكن هذه التربية والقيم البيتية، لم تعصم محموداً في بدايات مراهقته وفي سنته الثالثة من المرحلة المتوسطة سنة 2009، من استجابة رغبة تلميذ يكبره بسنوات في مدرسة بريقع، أراد اصطحابه إلى حضور حلقات ينظمها “حزب الله” ويسميها “تثقيفية”.

صرح “حزب الله” الجديد
حضر ذلك التلميذ على دراجته النارية إلى بيت أهل محمود في الرابعة بعد ظهر نهار، واصطحبه إلى “الحلقة التثقيفية” في مقر أو مجمّع “حزب الله” في القصيبة. وهو بناء كبير من طبقات ثلاث، وشيد حديثاً في البلدة التي يحازب معظم أهلها وأبنائها “حركة أمل” ويناصرونها. وتهيمن الحركة الشيعية النافذة فيها على مجتمعها البلدي، منذ ثمانينات القرن العشرين، وظل حضور “حزب الله” هامشياً بين أهلها وشبانها، قبل تشييد ذلك المجمع الكبير في أواخر العشرية الأولى من الألفية الثالثة.

ومن مشاهدات محمود في ذاك المجمع الكبير ونشاطاته: تدريب على السلاح الخفيف، حلقات حزبية تنظيمية، نشاط معلوماتي أو استخباري، وقاعة للمناسبات الدينية، وحلقات التثقيف التي انخرط فيها، وقال له ما يسمى “رابط حزب الله” في القصيبة، أي الشاب المسؤول عن المجمع: أهلاً وسهلاً بالأخ محمود، بدنا ياك تصير معنا، نحن معجبين بتهذيبك واجتهادك وتميزك.

استمر محمود يداوم على حضور “حلقات التثقيف” الأسبوعية التي كانت تضم نحو 15 تلميذاً وشاباً من القصيبة: محاضرات عن الجهاد، قراءة أدعية دينية وإنشادها في المسجد، تدريبات على كرة القدم. وهذه وحدها شغف محمود بها وبرحلة الانتقال مع أمثاله في “فان” إلى ملعب لكرة القدم في خراج البلدة. وفي نهاية الأشهر الثلاثة من مواظبته، طلب منه “رابط حزب الله” تعبئة طلب انتساب إلى الحزب، على أن يحضر لذلك إخراج قيد شخصي أو فردي.

ولما أحضره، فوجئ “الرابط” بأن عمر محمود 14 سنة، أي أصغر بسنوات ثلاثة من العمر المطلوب للانتساب إلى الحزب، على الرغم من أن هيئته وطوله وسلوكه كانت تشي بأنه أكبر من سنّه في إخراج القيد، لذا أُجّل انتسابه الرسمي إلى “حزب الله”.

“حزب الله” أو “امل”
لم يكن والد محمود راضياً عن تردّد ابنه إلى المجمع وانخراطه في نشاطاته، بل يستريب مما يحدث فيه معتبراً أنه غير بريء، فنهاه عن مواصلة ما يفعله قائلاً له: القيمون على المجمع يجلبون الأذية، وفي يوم ما يطلبون منك التدرّب على السلاح وحمله. وأنا أريدك أن تتابع تعليمك للوصول إلى الجامعة والتخرج منها.

لكن محموداً لم يقتنع بكلام والده، إلا أنه استجاب إليه، بعدما هدده بطرده من البيت. ومذاك قطع علاقته بالمجمع ونشاطاته.

بعد نيله الشهادة المتوسطة (البروفيه) تابع محمود تعليمه الثانوي في ثانوية الصباح الرسمية في النبطية، والتي يتوافق كل من “حركة أمل” و “حزب الله” على تقاسم إدارتها والنفوذ فيها. في العامين الدراسيين الأولين، تفرغ تفرغاً تاماً للدرس والاجتهاد بين المدرسة والبيت، ولعب كرة القدم مع أقرانه الطلاب في أيام العطل الأسبوعية. وكان يصلي ويصوم رمضان، ويحضر احتفالات عاشوراء المقدسة، الجامعة والمشهودة، في القصيبة والنبطية وبلدات قضائها. وكان محمود طالباً منظوراً في تهذيبه واجتهاده، وخصوصاً تميزه في اللغة العربية، وميله إلى الأدب والشعر اللذين يتردد على مكتبة الثانوية لمطالعتهما. وهذا ما لفت انتباه ناظر الثانوية العام المحازب لـ “حركة أمل”، فاستدعاه إلى مكتبه وقال له: بدي ياك تكون معنا بالحركة، يا محمود. أعجبت محموداً المبادرة. وكيف لا تعجبه ولا يستجيب لها، ما دام الناظر العام هو المسؤول الأول والأخير في ثانوية كبرى عدد طلابها نحو 1800 طالب، وعدد هيئتها التعليمية 170 مدرّساً ومدرّسة؟ فيما مديرها غائب تقريباً في متابعة شؤونها ومشاغلها وعلاقتها الإدارية بوزارة التربية.

عالم لا مفر منه
ويعترف محمود اليوم: ربما عن براءة، وربما عن وصولية، استجبت رغبة الناظر، في ثانوية ضخمة يتقاسم النفوذ والحظوة والنشاطات الطلابية فيها “حركة أمل” و”حزب الله”. وربما أراد أن يقول أيضاً: ماذا يمكن لطالب فتى، مهما يكن حاله وأصله وفصله، أن يفعل، إذا تفتحت عيناه ومداركه وتفتح وعيه على العالم من حوله في مراهقته وفتوته، فلا يجد أمامه سوى “حزب الله” و”حركة أمل” يملأ اسمهما ومحازبيهما ونشاطاتهما وكلامهما وشعائرهما فضاء ذلك العالم كله، وتستحوذ عليه، أهلاً وعائلات وأقارب ومعارف وجيران، وموظفين وعاملين ومؤسسات وتلامذة وطلاباً وشباناً وشابات؟! وهو عالم قائم، راسخ ومكتمل، قبلي ومن دوني وسواي من أمثالي، وهيهات أن يهتدوا إلى مفرٍ منه. ومن لا ينخرط فيه ويتدرج في أشكاله ومراتبه التنظيمية الحزبية، يجاريه وينساق إليه وفيه ويسبح في تياراته، بإرادة منه أو بلا إرادة.

أما من تسول له نفسه ومداركه وأهواؤه بعدم الاستجابة لذلك العالم أو إنكاره، فعليه أن يصمت ويكتم ما يفكر فيه ويعتقده. ذلك لأن كل من يُعلن أو يجاهر بإنكاره وخروجه على معتقدات وعلاقات العالم إياه، يُفرد إفراد البعير المعبّد ويُنتبذ، إذا لم يتعرض للحصار في رزقه ومعاشه، وقد يتعرض للأذى والعنف، على ما حصل للمشاركين في حركة 17 تشرين الأول 2019 الاحتجاجية، في صور والنبطية وكفر رمان.

(يتبع)