النصر الأسود
والجنوب خزان حزب الله بالمقاتلين والشهداء والمناصرين. وكان لتحرير شريطه الحدودي الجنوبي من الاحتلال الإسرائيلي، أثر بارز في تزايد شعبية حزب الله، وتصاعدها وانتشارها، بعدما اجتثّ المقاومات السابقة على ظهوره واستأثر وحده بالمقاومة والنصر.
وفي العام 2006 كرّست حرب تموز حزب الله بطلاً أسطورياً محلياً وعربياً. فبفضل البروبغندا الإعلامية حقق الحزب “نصره الإلهي”، وشاعت على ألسنة جمهوره عبارة الاستعداد للموت “فداءً لصرماية السيد حسن”.
وتغيّرت تلك القرى كثيراً بعد تحريرها، وتصاعد الولاء فيها لحزب الله: فَقَدَ المجتمع الجنوبي معظم خصائصه الثقافية، فاستورد خصائص جديدة خارجية – بعضها عراقية ومعظمها إيرانية – واستدخلها عضوياً في عاداته وتقاليده وحياته اليومية. لقد انعطف حزب الله، وقبله حركة أمل، بالمجتمع الجنوبي انعطافاً كبيراً وغيّره: تخلّت النساء الجنوبيات عن مناديلهن التقليدية الملونة والقطنية الخفيفة على رؤوسهن. واستبدلنها بالحجاب الشرعي الذي يستر شعرهنّ كله. ودثّرن أجسامهنّ بعباءات سود فضفاضة أو بالشادور. ثم حرّم حزب المقاومة الأصولي الموسيقى والدبكة الفولكلورية البلدية التقليدية في ساحات القرى. وجعل “الندبيات” و”اللطميات” وأهازيج البطولة وتبجيل الحرب والسيد نصرالله، فولكلوراً مذهبياً خالصاً. وزيّن مداخل القرى بالسواد وبصور الشهداء المعلقة على أعمدة الإنارة. واقتصرت المناسبات الاجتماعية على الدينية المعاد صوغها وإحياءها بحلّة جديدة: من مجالس العزاء الكربلائية في الحسينيات، إلى سواها من أمثالها من طقوس وشعائر.
هكذا أضحت المناطق الجنوبية الشيعية مغلقة معلّبة، وخفتت فيها الأصوات الشخصية أو الفردية الحرة. وبات كلام السيد نصرالله، ليس هو وحده الكلام فحسب، بل الكلام المقدس والمنزّل، وتحوّل كل من لا يوالي عقيدة حزب الله أو خطه السياسي “غريباً” في منطقته وبين أهله. وأصبحت المجاهرة بالرأي المختلف كالسير على الجمر، أو أشبه بالإقدام على الانتحار.
علي وزينب
لكن انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، أدت إلى تغيّر في الولاءات الحزبية في المجتمع الشيعي، وإن اختلف مقدار الرضوض التي أصابت حزب الله وحركة أمل. فحزب الله وجمهوره من أشد الأحزاب عقائدية والتزاماً وانضباطاً. ولا يقتصر هذا على المنضوين فيه فحسب، بل يشمل شطراً كبيراً الجنوبيين الشيعة الذين يُظهرون ولاءهم للحزب بطرقٍ متعددة: منهم من يُقتل في سبيل ذلك، ومنهم من يتخلى عن ممتلكاتٍ وأراضٍ فداءً للحزب والعقيدة، ومنهم من نصّب نفسه مدافعاً عنه في النقاشات والحوارات.
وكثيرون من مناصري الثنائي الشيعي يتباهون بأنهم من أوائل المشاركين في الانتفاضة في أيامها الأولى. لكنهم خرجوا من ساحاتها بعدما أمرهم السيد نصرالله بذلك، وأبلغهم أنه اكتشف أن الانتفاضة تحمل في طياتها مؤامرة كونية على سلاح المقاومة وحزبها. انسحبوا من الساحات وراحوا يتهمون المتظاهرين بالعمالة. لكن شطراً من الشيعة المحبين والمناصرين لنصرالله وحزبه خاب ظنهم، لأنهم توقعوا منه خطاباً مختلفاً ومغايراً يرقى إلى مستوى وجعهم، ووجع المنتفضين على فساد السياسيين وأجهزة الدولة، والذي طالما تحدث نصرالله عن ضرورة استئصاله.
كعادته انتظر علي، مثلاً – وهو من “أشرف الناس” المشاركين في الانتفاضة – خطاب السيد بفارغ الصبر في ذلك النهار من نهارات الانتفاضة. وهو لطالما دافع عن حزب الله وسلاحه ومواقفه معتبراً أنه محرِّر “الأرض والعرض”. وانتظر خطاب نصرالله حالماً بالتغيير الذي سيهب على لبنان، ما أن ينطق السيد كلماته الجوهرية داعياً الناس إلى الساحات والشوارع. وبعد إطلالته التلفزيونية تلك وأمره جمهوره بالخروج من الساحات، صُدم علي وخاب أمله. ثم تحوّل السيد نصرالله في نظره من بطلٍ يحمي لبنان ويحمل على الفاسدين، إلى حام للمفسدين.
ولطالما جاهرت زينب بانتمائها وحبها لحزب الله، وكانت مستعدة لمعاداة أقرب الناس إليها من أجله. لكنها اليوم تعتبر أن الحزب يرتكب خطأً تاريخياً. وبعدما كانت دائماً تصف السيد بالصادق والأمين، تستغرب وقوفه اليوم إلى جانب الباطل ضد الإنتفاضة، معتبرةً أن من كان يجاهر بدفاعه عن المقامات الدينية هو اليوم بعيد جداً عن خط السيدة زينب وأهل البيت.
لا شئ يدفئ سهرات قرى الجنوب الباردة في هذه الأيام، سوى النقاشات الحامية التي تستعّر حول المدافئ. نقاشات موضوعها انتفاضة لبنان والتطورات على الساحة الإيرانية. وتعلو في تلك السهرات أصوات جديدة حائرة متململة متسائلة عن الواقع السائد منذ سنوات. لكن حبات البرد في تلك القرى، غالباً ما تهطل وتذوب سريعاً. وعسى أن يحمل شتاؤها القارس ثلوجاً تتراكم كراته ولا تذوب .
مروى عليق
ومن حبات البرد الكبيرة ما حدث للفتاة الجنوبية مروى عليق قبل سنوات سبع. عندما نشرت ما جرى معها على مواقع الواصل الاجتماعي.
ففيما كان الجيش السوري وحزب الله يقصفان بلدة القصير السورية ويحاصرانها ويهاجمانها ويحتلانها ويهجران أهلها، كتبت مروى عبارات تتضامن الأهالي. لذا هاجم مناصرو حزب المقاومة منزل ذويها في بلدتهم الجنوبية، محاولين إحراقه، ثم حاصروه مرددين: “لن تسبى زينب مرتين” و”يا حسين” و”هيهات من الذلّة”. ووضعوا أمام باب البيت رصاصة وورقة مدوّنة عليها عبارات تهديد. وأحرقوا متجر والدها وشتموه، وطردوا الأسرة كلها من القرية، فتشردت مدة قبل استقرارها في العاصمة بيروت.
لم تكن مروى قد تجاوزت العشرين من عمرها آنذاك ولم يتضامن معها أحد. واليوم تتعرض لحملة مماثلة لأنها علّقت على مقتل قاسم سليماني، فكتبت أنه كان السبب في سقوط عدد كبير من الأبرياء السوريين. فانهالت عليها الشتائم من جمهور الثنائي الشيعي الذين تناولوها بعبارات بذيئة وشمتوا بوالدتها المريضة بداء السرطان.
لكن اللافت والجديد – بحسب عليق – هو عدد المتضامنين الكبير معها من الطائفة الشيعية. وهذا يعود برأيها إلى انتفاضة 17 تشرين الأول التي كسرت حاجز الخوف الشيعي.
منذ مطلع الأسبوع المنصرم، بات واضحاً أن الكثير من شبان الضاحية ومن بعض أحياء بيروت الشيعية الطابع (الخندق الغميق، زقاق البلاط..) باتوا يشاركون من تلقاء أنفسهم في التظاهرات والاحتجاجات التي شهدها جسر الرينغ ومنطقة الحمرا وكورنيش المزرعة، بعدما كانوا لمرات عديدة يتطوعون للهجوم على تلك التظاهرات، أو على الأقل يمتنعون على المشاركة فيها. ويوم السبت استشعر الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) بهذا الأمر، فتم تعميم منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي (والواتساب) جاء فيه:
“أهلنا الشرفاء في الضاحية الآبية
منذ عدة أيام تشهد مواقع التواصل الإجتماعي حملات تحريضية تطالب أهلنا الشرفاء في الضاحية المشاركة فيما يسمى “الثورة”، وتعمل على تجييش رأي عام من بيئة المقاومة من أجل تحقيق أهداف معروفة.
أهلنا الشرفاء، إننا نعيش مرحلة دقيقة وحساسة جداً من عمر وطننا لبنان، لذلك علينا أن نكون على قدرٍ عالٍ من المسؤولية خلف القيادة الحكيمة على قاعدة الصبر والبصيرة، وعدم الانجرار وراء صفحات أو أبواق إعلامية، تحاول اللعب على وتر أوجاع الناس وهمومها، وأن لا نكون أهدافاً لمشروع يحاول إحداث شرخ بين المقاومة وأهلها، وأن نحفظ تضحياتها ونكون سندها وخط دفاعها الأول والأخير”.
ويقدم المنشور بوضوح تحسساً جدياً من قبل هذا “الثنائي” تجاه ما يصيب “بيئتهما”، على نحو لم يشهداه من قبل.