قبل كورونا: الجدري والهواء الأصفر بقرية جنوبية في الثلاثينات

استمرت عزلة قرون والحجر عليها أكثر من سنة (الصورة من الجنوب في العشرينات،

11 مارس 2020
قبل كورونا: الجدري والهواء الأصفر بقرية جنوبية في الثلاثينات
نبيلة غصين
نبيلة غصين
على مر العصور فتكت بأهل الجنوب أمراض عصيبة حصدت كثيرين.
وعلى نحو عيش اللبنانيين اليوم في زمن الهلع والخوف جراء انتشار فيروس كورونا، عانى الجنوبيون في العقود السابقة من أوبئة مميتة، أضحت اليوم عارضاً صحياً عابراً.
وكان لسكان مزرعة فرون الجنوبية، قرب بلدة قعقعية الجسر، حصة كبيرة من الأوبئة التي أماتت كثيرين جراء الأوبئة.

تقع مزرعة فرون في قضاء بنت جبيل، ويفصلها عن قرى قضاء النبطية وبلداته لجهة الشمال، واد سحيق، يمر فيه نهر الليطاني الذي يشطر المنطقة إلى جنوب الليطاني وشمال الليطاني.

ويصل بين القسمين جسر صغير يعرف بجسر قعقعية الجسر. وهو هدف استراتيجي لدولة العدو الإسرائيلي، التي تستهدفه بأولى ضرباتها العسكرية لتقطع الطريق على الجنوبيين الهاربيين من بطشها.

عرس الجدري
حزم عبد اللطيف المقداد من بلدة فرون الجنوبية، في ثلاثينات القرن المنصرم، أمتعته عازماً على السفر إلى العراق، بعدما أضناه الشوق إلى محبوبته “الست صفية”، إبنة الشيخ علي من بلدة جويا.

وكانت صفية قد ذهبت مع والدها لإكمال دراسته الدينية في العراق.

لم يقو عبد اللطيف على فراق محبوبته، فلحق بها عازماً عقد قرانه عليها.

وكان مرض الجدري منتشراً بين سكان العراق في ذلك الوقت.

وعاد عبد اللطيف إلى دياره مصاباً مع عروسه بعدوى وباء الجدري، من دون درايتهما بإصابتهما به.

وأقيم في قريته فرون عرس للعريسين حضره معظم أبنائها.

كانت القرى الجنوبية في ذلك الحين ترزح تحت حكم الإقطاع.

وكان أهاليها فلاحين يعملون في الأرض مقابل حصةٍ معينة يتكرم بها عليهم الملّاك. وكانت نساء القرية ورجالها وأطفالهم يغدون إلى الحقول باكراً لحراثة الأرض وزراعتها، فيما “عجّال” البقرات العائدة لكل من أهل القرية، “يلمه” راعٍ ليرعاها في الأراضي البور.

وفي صبيحة يوم تلا العرس، لم يستطع معظم أهل القرية النهوض إلى أعمالهم، وبدأت تلوح عليهم مؤشرات الإصابة بوباء الجدري.

فظهرت على وجوههم التي راحت تمتلئ بفقعات ماء يرافقها احمرار شديد في العينين.

وكان المصابون يعانون من انحطاطٍ وتعبٍ ووهن في أجسامهم.

وفتك الجدري بعموم أهالي بلدة فرون، وأعلنتها الدولة اللبنانية قرية منكوبة و”كرتنت” (حجرت) عليها، ووضعت سكانها في حجر صحي، ومنعتهم من الخروج من القرية، وقطعت أي صلة بينهم وبين القرى المجاورة.

وحاصر عناصرٌ من قوى الأمن الداخلي القرية، فأحاطوا بحدودها. والضابطُ المسؤول عن البلدة كان شخصاً قد تعافى سابقاً من مرض الجدري، وبذلك يكون محصناً من انتقال العدوى إليه.

سنة من العزلة
لم تكن الحاجة فاطمة (ولدت سنة 1928 في فرون) قد تجاوزت السادسة من عمرها حين أصيبت بمرض الجدري وتتذكر كيف كان شبح الموت مخيماً في أرض فرون: “ضلينا سنة بكاملها ما فينا نضهر برات البيت.

كلنا مطروحين بالأرض من التعب”.

نجت الحاجة فاطمة من الجدري، لكن شقيقتها الصغرى فقدت بصرها جراء ذلك المرض. وكانت والدتهما من القلائل الذين لم يصابوا به.

لذا راحت تهتم بشؤون الزراعة وتربية الماشية لتأمين الطعام.

أما شقيقتها الصغرى المصابة بالعدوى، فكانت تلحق بوالدتها خارج المنزل، فأصيبت بالعمى.

كان منزل الحاجة فاطمة وأهلها مطلاً على مقبرة القرية.

وكانت وإخوتها يشاهدون حفاري القبور.

وعندما يسألون عن الشخص المتوفي، كانت والدتهم تتحايل عليهم بأجوبتها لعدم إثارة الرعب في نفوسهم: “ما كان حدا يعرف مين مات بالضيعة ولا مين بعدو عايش.

ما كان حدا يروح لعند حدا”. وكانت احتياجات القرية اللازمة تتأمن باتفاق مسبق بين المعنيين والضابط المسؤول. فيعين مكاناً بعيداً من القرية، تُترك فيه المساعدات، لتُنقل لاحقاً.

استمرت عزلة فرون والحجر عليها أكثر من سنة. بعدها زالت لعنة الجدري، فخرج الناس وراحوا يتفقدون بعضهم البعض. يحصون أمواتهم وتشوهاتهم. توفي منهم أكثر من أشخاص ستة في مزرعةٍ لا يتجاوز سكانها العشرات، فيما أصيب عدد كبير بالعمى، تشوهت وجوه آخرين كثر.

الهواء الأصفر
ويروي كبار السن في مزرعة فرون حكايات عن الأمراض المستعصية التي عانى منها أهلهم وأجدادهم.

ويخبرنا أبو جعفر (85 عاماً) عن “الهواء الأصفر”، الذي فتك بأهل البلاد في عشرينات القرن المنصرم: “كان الناس ينامون نوماً طويلاً، من دون ما يكون إشبهم شي.

نفتح الباب عليهم في اليوم التالي، فنجدهم ميتين بأرضهم”.

وتروي الحاجة فاطمة أن جدتها توفت بهذا الوباء أمها أخبرتها كيف قامت وحدها بغسل أمها وتكفينها وحملها إلى المقبرة، وحفرها قبرها ودفنها. فالقرية خلت تقريباً من سكانها الذين مات كثر منهم.

وقد تيتّم كثرة من أطفالها الذين غيّب “الهواء الأصفر” آباءهم وأمهاتهم.

وعلى الرغم من مرور سنواتٍ كثيرة على هذه الأوبئة القديمة التي زرعت الرعب في نفوس الناس – كما مرض كورونا اليوم – فإن إجراءات أجهزة الدولة قديماً كانت أكثر تشدداّ ومسؤولية.

فقد قامت بعزل المناطق الموبوءة حينذاك.

لكن اليوم، على الرغم من التطور، لم تستطع الحكومة من الحجر على مجموعة من الأشخاص لتجنب كارثة انتشار الوباء.