تجيد السلطة، المتحكمة بمفاصل الحياة السياسية، استغلال حاجات المواطنين اللبنانيين ومطالبهم الملحة، ورفعهم شعارات محقة، لكي تتمكن من استعادة المبادرة وترسيخ نفوذها.
كلنا يتذكر إبان انتفاضة 17 تشرين شعار الكثيرين من المشاركين فيها بأننا نريد “حكومة تكنوقراط”، وكيف استُغل هذا الشعار من أجل إمرار هذه الحكومة، التي تمثل من كان في الحكومات المتعاقبة ولو بتوضيبة جديدة، وذلك باعتراف معظم أعضائها.
هكذا أيضاً، ومنذ بداية انتشار وباء كورونا، هنالك أصوات تتعالى مطالبة بضرورة إعلان “حالة الطوارىء”، كونها برأيهم تلزم الناس بالبقاء في منازلهم للحد من انتشار الوباء. وكالعادة، التقط بعض من في مركز القرار الفكرة، وراحوا يطالبون بفرضها، ليس خوفاً على صحة الناس وإنما لتصفية حسابات سلطوية. وللمفارقة، فإن رئيس الحكومة في دفاعه عن عدم إعلان حالة الطوارىء لتاريخه، والاكتفاء بإعلان حالة ” التعبئة العامة” للمرة الثانية، لم يقدم أجوبة مقنعة، وارتكزعلى طرح أفكار سطحية، بدل أن يقدم شرحاً مسهباً يُسكت المطالبين ويطمئن المواطنين.
حقوق المواطنين
صحيح “إن الحالة التي نمر بها لا تسمح للحكومة بإعلان حالة الطوارئ “، كما قال رئيس الحكومة، إلا أنه لم يصارح اللبنانيين بأن إعلان الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ دقيق جداً، وهو يوقف مفعول بعض القوانين الأساسية التي تحمي الإنسان، كما بعض الضمانات الدستورية، لاسيما تلك المتعلقة بالحريات الشخصية، وحرمة المنزل والملكية الخاصة، وحرية الرأي. ويعطي السلطات العسكرية صلاحيات استثنائية إدارية وقضائية واسعة. فإذا كان هذا الأمر يصح في حالات الإخلال بالأمن أو بمحاولات الانقلاب على النظام، فهل يفيد في حالة انتشار وباء يفرض أن تكون السجون ومراكز التوقيف فارغة؟ والمحاكم العسكرية والمدنية مقفلة وغير ممتلئة بالمتقاضين والقضاة والمحامين؟ ناهيك عن إن الإعلان بحد ذاته ونظراً لخطورته، يثير حفيظة مؤسسات حقوق الإنسان الدولية، كما حصل مع الأردن مؤخراً، إذ فور إعلانه فرض حالة الطوارىء للحد من تفشي فيروس كورونا، طلبت منظمة هيومن رايتس ووتش منه ضرورة تطبيقه في أضيق الحدود.
إضافة لكل ذلك، فإن هذا الإعلان، وهو تقليد عرفه لبنان منذ عهد الانتداب الفرنسي، وقد أناطه حينها بالمفوض السامي، الذي كان بإمكانه ليس فقط فرض حالة الطوارىء وإنما أيضاً تعليق القوانين وتعطيل الدستور، كما فعل سنتي 1932 و1939، يفرض عادة إعلان منع التجول، على أن يطبق الجيش، والقوى الأمنية التي توضع حكماً بامرته، هذا التدبير. فهل المطلوب انتشار هذه القوى في كل دسكرة وشارع وحي ومنطقة وأمام الأبنية والمحلات والمنازل لمنع التجول؟ مع عدم إمكانية سجن من يخالف هذا المنع، نظراً لطبيعة انتشار الفيروس. أم أن من يطالب بهذا الإعلان لديه أسباب أخرى غير معلنة؟ ناهيك عن الإشكالات القانونية والإدارية، التي يمكن أن تنتج عن الإجراءات التي تتخذها القوى المسلحة نيابة عن السلطة التنفيذية والقضائية، ونحن أمام انتشار وباء، لا أمام ظرف سياسي أو أمني استثنائي…
غموض والتباس
وأردف رئيس الحكومة في معرض تبريره أنه “في حال عثرنا على ثغرة في القانون تسمح بذلك، على هذا القرار أن ينال أغلبية ثلثي مجلس الوزراء، وعرضه في ما بعد على مجلس النواب خلال فترة 8 أيام منذ الإعلان”.
إن هذه الإشكالية القانونية تقودنا إلى الإضاءة على نقاط عديدة لم يتطرق إليها رئيس الحكومة. النقطة الأولى، أن قرار إعلان حالة التعبئة العامة يتطلب نيله أغلبية ثلثي مجلس الوزراء، تماماً كما إعلان حالة الطوارىْ.
وذلك وفقاً للفقرة الخامسة من المادة 65 من الدستور اللبناني. أما إعلان حالة الطوارىء فتفرض “أن يجتمع مجلس النواب للنظر بهذا التدبير في مهلة ثمانية أيام، وإن لم يكن في دور الانعقاد”.
وذلك وفقاً للمادة الثانية من المرسوم الاشتراعي رقم 52 المؤرخ في 5 آب سنة 1967، الذي ينظم إعلان حالة الطوارىء.
وهذا الإجراء يقودنا حكماً إلى النقطة الثانية، التي لم يتطرق إليها رئيس الحكومة، وهي أننا أمام نص مبهم بحاجة إلى توضيح وتفسير، إذ أنه لا يذكر بشكل صريح مصير الإعلان في حال عدم اجتماع المجلس النيابي في المهلة المعينة.
وقد نشأت هذه المشكلة في شهر أيار من سنة 1973، حين أعلنت حكومة الرئيس أمين الحافظ التي لم تكن قد نالت ثقة المجلس حالة الطوارئ في البلاد، على إثر اضطرابات داخلية، وذلك بموجب المرسوم رقم 5513. يومها لم يجتمع المجلس النيابي خلال مهلة الثمانية أيام لعدم اكتمال النصاب.
وبالتالي، لم يتخذ قراراً من الإعلان.
إزاء هذا الواقع طالب العديد من النواب بإلغاء المرسوم حتماً بمجرد عدم مصادقة مجلس النواب عليه ضمن المهلة القانونية. لكن الحكومة لم تأخذ بهذا الرأي، بل اعتبرت أن قرار إعلان حالة الطوارئ يبقى نافذاً ما دام مجلس النواب لم يقرر إلغاءه.
بقي الوضع على ما هو عليه حتى 23 أيار من سنة 1973 حين اتخذت الحكومة قراراً برفع حالة الطوارىء بموجب المرسوم 5515.
هذه السابقة تفرض تعديل نص المرسوم الاشتراعي رقم 52 لهذه الناحية، وذلك على مثال فرنسا التي أبقت حالة إعلان الطوارىء تحت رقابة المجلس النيابي.
فقد نصت المادة السادسة والثلاثون من الدستور الحالي الصادر في العام 1958 على أن حالة الطوارئ (l’etat de siege) تعلن بقرار من مجلس الوزراء، وأن تمديدها لأكثر من اثني عشر يوماً لا يؤذن به إلا بموجب قانون يصدر عن السلطة التشريعية.
أي أن هذا التدبير الاستثنائي يسقط حتماً بعد اثني عشر يوماً من صدوره، إذا لم تصدر السلطة التشريعية قانوناً يمدده.
وهذا ما يقودنا إلى النقطة الثالثة التي أغفل الرئيس دياب التكلم عنها، وهي دور السلطة التشريعية الغائبة في هذا الظرف الصعب، بعد إقفال أبواب المجلس النيابي عن الاجتماع، والتمنع عن مواكبة السلطة التنفيذية بمجموعة من التشريعات الضرورية، تتعلق بالصحة والمساجين وضبط الأسعار وإجازة الصرف وغيرها، وذلك على مثال السلطات التشريعية في دول عديدة كفرنسا والولايات المتحدة الأميركية.
وهذا هو الدور الأساسي لأعضاء المجلس النيابي في هذه المرحلة، بدل التلهي بالمناكفات وبإدخال لبنان رسمياً عصر “الشحادة”، وتنافسهم غير المخزي على تقديم فتات المساعدات إلى المواطنين.
جسم سلطوي مريض
وبالمناسبة، على النواب والوزراء التمعن بقراءة قانون “الأمراض المعدية في لبنان” الصادر في العام 1957، والذي استند إليه مرسوم إعلان حالة التعبئة العامة، نظراً لشموليته إن لناحية تعريفه بالأمراض الانتقالية، ودور الوزارات والبلديات والسلطات الأخرى في مكافحة هذه الأوبئة، والعقوبات التي تفرض عند مخالفة أحكامه، علّهم يدركون خطورة بعض قوانين غب الطلب التي تصدر من حين إلى آخر، أو عدم تطبيق النافذة منها.
بالخلاصة، فإن ما لم يشر إليه رئيس الحكومة هو أن الحجج القانونية والإدارية والواقعية كثيرة وصلبة، للعدول عن فكرة إعلان الطوارى، التي لن تقدم أو تأخر في حال إقرارها، وإنما ستزيد معاناة الناس من أرباب عمل وفقراء، وستدخلنا بمزيد من النزاعات الدستورية والقانونية.
وبالتالي، المزيد من التعطيل في جسم سلطوي مريض وعلى كل المستويات. وبالطبع سيكون هذا الإعلان بمثابة سابقة من الممكن أن تستعمله السلطات لقمع تحركات شعبية مطلبية آتية لا محال. ومن يعش إلى عهد ما بعد كورونا يرى.