بحسابات تقريبية يكاد يجمع عليها أهل الاختصاص من الاقتصاديين ومن العاملين في مجال المال والأعمال والمحاسبة العمومية، يمكن تقسيم الدين العام إلى ثلاثة: ثلث تم أنفاقه على مشاريع عامة في البنية التحتية، كالطرقات والهاتف والجامعة اللبنانية والمطار والمدينة الرياضية، ولا يمكن استرداده بعد أن تحولت المبالغ من نقود إلى مواد أولية ثم إلى صروح وأبنية وتجهيزات؛ ثلت أنفق على الكهرباء من دون أي مردود، وهو يقع في باب الإنفاق غير المجدي أو باب الهدر، وهي تسمية مهذبة لنوع من السطو على المال العام، وهذا الثلث يمكن أن يحاسب على هدره المشاركون في قرارات إنفاقه، وبالتالي يمكن استرداده بكل الأشكال الممكنة من خلال القضاء الإداري والقضاء العدلي.
الثلث الثالث يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، الأول يتمثل بالأرباح القياسية التي جناها المصرفيون وكبار المتمولين من خلال سندات الخزينة التي كانت تضاعف رأس المال كل سنتين ونصف، فيما يحتاج رأس المال إلى عشر سنوات ليتضاعف في الظروف العادية من خلال تراكم الفوائد المصرفية. لكن هذه الأرباح شرعية، بمعنى أن أصحابها حصلوا عليها تحت سقف القوانين والتشريعات البرلمانية، حتى لو كانت قد تجاوزت الحدود المشروعة للأرباح والفوائد المصرفية والاستثمارات والتي تقدر بحوالى العشرة بالمئة من قيمة رأس المال. يمكن أن يستعاد قسم من هذه الأموال إلى خزينة الدولة بعملية تشريع جديدة، من دون المساس بأصول الودائع.
القسم الثاني يتمثل بالتهرب الضريبي والجمركي بالسطو على المعابر غير الشرعية أو على المشاعات والأملاك العامة البرية والبحرية والنهرية. جزء من المال المهدور في هذا المجال يخضع لمعايير سياسية فيما يمكن أن يخضع جزء آخر للمحاسبة أمام القضاء.
القسم الثالث يتمثل بالأموال التي حصل السطو عليها، بالتواطؤ مع المصارف أو بدونه، من قبل مافيا السلطة الميليشيوية، وهي ما يقع تحت باب المال المنهوب. إن باب الخروج من الأزمة المالية والنقدية يتمثل بمحاسبة المسؤولين عن هذه السرقة الموصوفة، وباستعادة المال المنهوب، وهو أمر ممكن بإجماع الحقوقيين وبالتعاون مع المؤسسات الدولية المعنية بهذا الشأن، على أن تكون البداية بمساءلة السياسيين القضائية عن الأموال التي حصلوا عليها خلال قيامهم بمهام الوظيفة العامة في مؤسسات الدولة السياسية والإدارية والعسكرية، استناداً إلى قانون الإثراء غير المشروع.
القسم الثالث هذا هو ما ينبغي التركيز عليه، لأن عملية السطو فيه هي الأخطر. أبطالها سياسيون لا تتوقف جريمتهم عند حدود نهب المال العام بل تتعداها إلى الاستهتار بكل ما هو عام، وإلى تعميم قيم الفساد والإفساد على المجتمع وإدارات الدولة، وهو أمر لا يمكن حصوله إلا من طريق انتهاك القوانين والأعراف الدستورية التي تفضي إلى تدمير الدولة.
حين يحلو للبعض أن يحمل المسؤولية للمصارف أو للمصرف المركزي أو للفساد الإداري، وهذه كلها ينبغي أن تخضع للمحاسبة أمام القضاء، فهو يعمل عن قصد أو عن غير قصد على تبرئة اللص الحقيقي المسؤول ليس فقط عن نهب ثلث المال العام بل عن تدمير الدولة وانتهاك استقلالية القضاء.