إذا كانت المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري أثارت خيبة كبيرة لدى كثيرين في لبنان وخارجه، لا شيء يمنع الاعتراف بأنّ هذه المحكمة بعثت في نهاية المطاف بالرسالة المطلوب أن تبعث بها. ربطت بين الذين نفّذوا الجريمة من جهة و”حزب الله” من جهة أخرى. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّها وضعت الإطار السياسي الذي رافق تنفيذ الجريمة إيرانياً وسورياً.
لم تتوقّف الجريمة عند اغتيال رفيق الحريري، ولا عند اغتيال لبنانيين آخرين كانوا يرمزون إلى ثقافة الحياة بدءاً بسمير قصير وصولاً إلى محمّد شطح، مروراً بجورج حاوي، وجبران تويني، ووليد عيدو، وبيار أمين الجميّل، وأنطوان غانم، ووسام عيد، ووسام الحسن. الجريمة مستمرّة، وهي تكشف أنّ الهدف من اغتيال رفيق الحريري، هو اغتيال بيروت ولبنان.
إنّه هدف على شفا أن يتحقّق في ذكرى مئوية “لبنان الكبير”.
حسناً فعل الرئيس سعد الحريري عندما تحدّث بعد صدور الحكم بطريقة لائقة، وواقعية. يشير ذلك إلى أنّه لم يسعَ يوماً إلى الانتقام بمقدار ما أنّ همّه الأوّل كان محصوراً بمعرفة الحقيقة، وتحقيق العدالة.
الأكيد أنّ كلّ من يمتلك علاقة بما شهده لبنان من أحداث طوال السنوات الماضية، منذ ما قبل اغتيال رفيق الحريري ورفاقه على رأسهم باسل فليحان، ومنذ محاولة اغتيال مروان حمادة الأوّل من تشرين الاوّل 2004، يعرف ما هو “حزب الله”. الحزب ليس جمعية خيرية، وسليم عيّاش، ومصطفى بدر الدين ليسا من العاملين في الخدمات الاجتماعية. سقط “حزب الله” سقطة كبيرة عندما اعتبر أنّ المحكمة الدولية التي أنشئت في العام 2007 بموجب قرار لمجلس الامن هي محكمة “مسيّسة”.
تبيّن على العكس من ذلك، أنّ هذه المحكمة تلتزم القانون، ولا شيء غير القانون، والإطار الذي رسمه لها قرار مجلس الأمن. لذلك، كان الحكم بإدانة سليم عيّاش في حين اعتُبر مصطفى بدر الدين متوفّى ولا حاجة إلى إدانته. في الوقت ذاته، برّأت المحكمة ثلاثة آخرين كان اللبنانيون يتوقّعون إدانتهم.
لم تكن المحكمة مسيّسة. لذلك، اكتفت بالحكم الذي أصدرته، والذي استند إلى ما تجمّع لديها من إثباتات، وأدلّة قاطعة، ووقائع.
معظم ما توافر لدى المحكمة، كان بفضل النقيب وسام عيد الذي دفع غالياً ثمن الاختراق الذي حقّقه. اغتيل وسام عيد بسبب كشفه شبكة الاتصالات التي أوصلت إلى سليم عيّاش، ومصطفى بدر الدين والآخرين الذين لم تتمكّن المحكمة من إدانتهم.
ما لا يمكن تجاهله أنّ المحكمة عملت في الإطار القانوني البحت. تحكّمت روسيا والصين بهذا الإطار من أجل حماية النظام السوري و”حزب الله”، الذي من خلفه إيران.
ساومت الديكتاتوريتان الروسية والصينة في مجلس الأمن على دماء اللبنانيين كما ساومتا لاحقاً على دماء السوريين. ترفضان الاعتراف بأنّ القاتل في سوريا يستخدم البراميل المتفجّرة والأسلحة الكيميائية في التعاطي مع شعبه.
أصرّت روسيا والصين على حماية الإرهاب بحجّة التصدّي للإرهاب. هدّدت روسيا والصين باستخدام الفيتو لمنع صدور قرار ينشئ المحكمة الدولية في حال لم يشر نص قرار مجلس الامن صراحة إلى انّ المحكمة لا تستطيع إدانة دول وكيانات سياسية، بل يجب أن تحصر أيّ إدانة بالأفراد.
حصرت المحكمة الإدانة بالأفراد. حصرت الجريمة بسليم عيّاش الذي ينتمي إلى “حزب الله”.
لا فارق من أيّ نوع بين إدانة الحزب وإدانة عضو فيه.
لا يستطيع أيّ عضو في تنظيم مثل “حزب الله” المشاركة بجريمة في حجم جريمة اغتيال رفيق الحريري، وحتّى في جريمة صغيرة، من دون تغطية كاملة من الحزب واوامر منه.
الحزب نفسه لا يمكن الإقدام على مثل هذه الخطوة من دون موافقة المرجع الأعلى في “الجمهورية الإسلامية” في إيران.
لم يتغيّر شيء منذ اغتيال رفيق الحريري، أقلّه على صعيد الهجمة الإيرانية المستمرّة على لبنان. الفارق بين 2005 و2020 أنّ لبنان الذي كان بلداً عربيّاً واعداً أيّام رفيق الحريري صار الآن بلداً معزولاً ومفلساً عاصمته مدمّرة.
بعد خمس عشرة سنة ونصف سنة على الجريمة، لم يعد من شكّ في من كان وراء اغتيال رفيق الحريري. مجرّد إدانة المحكمة الدولية لسليم عيّاش إدانة لـ”حزب الله.
ليس صحيحاً أنّ العدالة التي تتأخّر ليست عدالة.
من رفض المحكمة الدولية هو من رفض منذ البداية الوصول إلى يوم يكشف فيه القاتل.
هذا ما نراه الآن بالعين المجرّدة بعد تفجير ميناء بيروت. هناك من يرفض التحقيق الدولي بحجّة انّه “مضيعة للوقت”، على حدّ تعبير رئيس الجمهورية ميشال عون.
هناك بكل بساطة من يريد استمرار مفاعيل اغتيال رفيق الحريري، وهي مفاعيل جرّت إلى حرب صيف 2006 وصولاً إلى وضع صار فيه لبنان كلّه أسير “حزب الله” وعهده “القوي”… وأسير الدوران في حلقة مقفلة.
لن يكسر هذه الحلقة سوى انقلاب كبير يصعب في الوقت الحاضر تحديد من سيقوم به، ومن أين سينطلق، باستثناء أن “مذكرة الحياد الناشط” الصادرة عن البطريركية في هذه الظروف بالذات ليس حدثاً عادياً يمكن الاستخفاف به بأيّ شكل!