استبق الائتلاف الحاكم برأسيه الأساسيين، “التيار الوطني الحر” وحزب الله”، زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، بالمطالبة بتغيير النظام السياسي كلّ على طريقته. فالرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل طالباً بالدولة المدنية، وقد وصفها الأخير بـ”الشاملة” مع كلّ ما تعكسه هذه الشمولية من ضبابية، وهي المستوحاة من تعبير “العلمنة الشاملة” الذي كانت “الجبهة اللبنانية” قد ردّت به في بدايات الحرب الأهلية على مطالبة الحركة الوطنية بإلغاء الطائفية السياسية.
أمّا السيّد نصرالله، فقد رحّب متأخراً عشرين يوماً تقريباً بدعوة ماكرون إلى عقد سياسي جديد خلال زيارته الأولى بيروت في 7 آب الماضي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الورقة الفرنسية الرسمية لم تأتِ على ذكر قبل هذا المؤتمر لا من قريب ولا من بعيد. بل جاء في السطرين الأخيرين منها ما حرفيته: “إنّ فرنسا ستعمل دون إبطاء بالدعوة إلى مؤتمر دولي تأسيسي يسمح بتمويل لبنان ويضمن كامل سيادته”.
من جهته الرئيس نبيه برّي وكعادته، خصوصاً خلال إحياء ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر، دعا إلى إلغاء الطائفية السياسيّة. وهذا موقف مقيم في أدبيّات برّي، وهو ما يوجب وضعه في سياق مواقف عون وباسيل ونصرالله الأخيرة.
لذلك لم يأتِ الرئيس الفرنسي على ذكر “العقد السياسي الجديد” في زيارته الثانية، علماً أنّ تفسيرات كثيرة قد أعطيت لعبارته تلك خلال زيارته الأولى تراوحت بين القول إنّه قصد اتفاقاً سياسياً جديداً تقتضيه مرحلة ما بعد انفجار مرفأ بيروت، وبين الاعتبار أنّه يدعو إلى تغيير النظام السياسي اللبناني المرتكز على “وثيقة الوفاق الوطني” .
لكن اعتماد التفسير الثاني يحتاج إلى كثير من الجرأة لأنّ اعتبار أيٍّ كان أنّه في الإمكان الشروع بتغيير الدستور اللبناني في السياقين اللبناني والإقليمي الحاليين، يشكّك بقوّة في خبرته السياسية؛ أو يحتاج إلى كثير من الخبث السياسي لأنّ طرحه في التوقيت الحالي هدفه الاستظلال بموقف ماكرون لإعلان الدعوة إلى تغيير الدستور.
وهذه دعوة مقيمة عند طرفين أساسيين في لبنان.
الأوّل هو “التيار الوطني الحرّ” لانّه يعتبر أنّ الطائف حرم رئيس الجمهورية صلاحياته. ولذلك، فالرئيس عون لم يتمكّن من إرساء قواعد الحكم الرشيد! ثمّ إنّ جبران باسيل الذي يصبو إلى الانتقال من الغرفة الجانبية في القصر الرئاسي إلى القاعة الرئيسية، يحلم بإمكان استباق هذا الانتقال باسترداد صلاحيات رئيس الجمهورية المنقوصة، فيتمكن وقتذاك من حلّ كلّ الأزمات اللبنانية! وإلّا فهو سيكّرر المقولة نفسها بأنّ العجز عن العمل سببه نقص الصلاحيات، ولا حرجَ لديه في ذلك أصلاً.
أمّا الطرف الثاني فهو “حزب الله”، الذي يريد تكريس وترجمة نفوذه الأمني والعسكري والسياسيّ في داخل الدستور، باعتبار أنّ موازين القوى الداخلية تبدّلت عنا كانت عليه وقت إقرار “الطائف” والتوقيع عليه. وقد ذهب الشيخ أحمد قبلان صراحة إلى المطالبة بنظام غير طائفي؟!
والحال، فإنّ دعوة رأسي الحكم إلى تغيير النظام، كلّ بحسب أدبياته وإن كانت تصدر عن فائض قوّة وشعور بالغلبة لديهما، إلا أنّها تعكس في الوقت نفسه محدودية قدرتهما على جعل مسألة تغيير النظام السياسي أولوية في الحياة السياسية اللبنانية.
وذلك بالرغم من كلّ محاولاتهما، وآخرها دعوة أطلقها رئيس الجمهورية إلى تنظيم حوار يضم السلطات الروحية والقيادات السياسية توصلاً إلى صيغة مقبولة من الجميع تترجم بالتعديلات الدستورية.
وقد سارع وليد جنبلاط إلى رفض المشاركة في حوار كهذا، متمسّكاً بـ”اتفاق الطائف”، غامزاً من قناة رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، ولكن خصوصاً من قناة “رؤساء الحكومة الأربعة” الذين ما عادوا يذكرون الطائف في أدبياتهم!
لكنّ الأهمّ أنّ موقف جنبلاط يعكس مرّة جديدة اصطدام دعوات تغيير النظام بحائط المعادلات الطائفية / السياسية المعقّدة، التي تختزن بحراً من الموروثات التاريخية، لا السياسية وحسب، بل الاجتماعية والنفسيّة أيضاً، ما يجعل أي مسّ بها بمثابة سلوك للطريق الوعر نحو العنف.
واللافت في السياق عينه أنّ دعوة عون وباسيل إلى الدولة المدينة “الشاملة” تلاها ترحيب نصرالله بـ”العقد السياسي الجديد”، تزامنا مع تمسكّ “التيار الوطني الحر” و”حزب الله” خلال لقاء ماكرون مع ممثلي الكتل السياسي في قصر الصنوبر الأربعاء الماضي بقانون الانتخابات الحالي، فضلاً عن رفضهما أي تقصير لولاية المجلس النيابي.
وغنيّ عن القول إن منطق القانون الانتخابي المعمول به يرتكز على منطق “القانون الأرثوذكسي” الذي يخوّل كلّ طائفة التصويت لنوّابها حصراً، في انقلاب صريح على اتفاق الطائف الذي رسم خريطة طريق لإلغاء الطائفية السياسية أهمّ مندرجاتها اتنخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي بموازاة إنشاء مجلس شيوخ بحسب التمثيل الطائفي. لكن يبدو أنّ للوزير باسيل ورئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد، اللذين تمسّكا بالقانون الانتخابي خشية خسارة الغالبية النيابية، وصفة أخرى لإلغاء الطائفية السياسيّة وذلك من خلال تكريسها كما في القانون إياه؟!
في المحصلّة فزيارة الرئيس الفرنسي الثانية لبيروت، كشفت مرّة جديدة، هشاشة الطرح السياسي للائتلاف الحاكم، الذي يحاول تمويهها بنزعات الغلبة، سواء عبر أدوات السلطة أو ترسانة الأسلحة والصواريخ. لقد كان هذه الائتلاف عاجزاً عن التقدّم خطوة واحدة في طريق الإصلاح التي رسمها “المجتمع الدولي” لإنقاذ لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية.
خصوصاً بعد المهزلة التي أوقعت الحكومة السابقة نفسها ولبنان بها. فجاء ماكرون رامياً كرة الإصلاح مجدداً بين أيدي الثنائي “حزب الله” “التيار الوطني الحر” بوصفه عمود الحكم الحالي، وفي مهلة أقصاها ثلاثة أشهر، وقد قبلها الحزب مرغماً بالرغم من كلّ تنطّحاته السياديّة الخطابية.
وهذا الوهن السياسي لا يمكن أن يعوضّه الانفتاح الفرنسي على “حزب الله”، خصوصاً أنّه انفتاح يفتقد اسباب المتانة والديمومة في لحظة إقليمية انتقالية ومعقدّة قبل نحو شهرين على الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ينتظرها العرب والإقليميون قبل الأميركيين!