حين ترك البطريرك الماروني نصر الله صفير كرسي البطاركة، كان ثمة من همس في أذنه خيارًا من خيارين: “إما الانفتاح الشامل على النظام السوري وحزب الله، أو ترك المهمة لحاملها”. وقد اختار أن يترجل كما عرفناه، بلا تردّد.
أصل هذا النقاش يعود إلى أفكار مكثفة سوّق لها ميشال عون وفريقه الاستشاري اللصيق في بداية العهد بعد توقيعه اتفاق مارمخايل مع حزب الله. وهي أفكارٌ قامت في الأساس حول ابتكار الأسباب الموجبة التي تسوّغ الضرورة الاستثنائية لتحالفات عون الداخلية والخارجية، باعتبارها خط الدفاع الأول عن المسيحيين ووجودهم وقدرتهم على توسيع هامش حركتهم دون الاصطدام المباشر. وقد سلكت هذه الأفكار طريقها إلى الفاتيكان، الذي أخذ يدرسها بعناية، قبل أن يعود ويتعاطى معها باعتبارها أكثر الخيارات الممكنة والمتاحة، بحيث لا تكون نواةً تأسيسية لتحالف الأقليات، لكنها تمنع الارتطام العامودي في غمرة الاشتباك المستعر بين السنة والشيعة في لبنان وعلى مستوى المنطقة برمتها.
وصل البطريرك بشارة الراعي كخلاصة طبيعية لهذا التوجه، وقد بدا منذ وصوله أنّه منفتح على علاقة سوية مع الجميع. فزار سوريا، وباشر بزيارات مكوكية شملت مناطق حزب الله، ثم زار الأماكن المسيحية المقدّسة في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، فدخل الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. فيما أطلق شعاره الواضح حول “الشراكة والمحبّة”، باعتباره العنوان العريض لتحرك ميداني متدرج، ولخطاب سياسي رمادي، يقوم على تدوير الزوايا، والابتعاد قدر الامكان عن الدخول في الاشتباك.
الإجراء العملي الأول بدأ بفرض عقوبات أمريكية مباشرة على يوسف فينيانوس، الوزير المسيحي المحسوب على سليمان فرنجية. وقد تسببت هذه العقوبات بموجة ذعر، لا سيما أن الأسباب الموجبة التي استندت إليها الخزانة الأميريكية في اتخاذ هذا القرار، هي نفسها الأسباب التي تنطبق على جميع المسيحيين المتحالفين مع حزب الله
استخدم ميشال عون هذه المظلة للهروب من معضلة التحالف مع حزب الله وتبعاته على المستويات كافة، لا سيما لجهة فرض عقوبات على شخصيات ملحقة به أو مقربة اليه، باعتبارها ساهمت في توسيع نفوذ حزب الله السياسي، أو شاركت في تغطيته، وقد تردّد يومذاك أن كلامًا كثيرًا وكبيرًا سُمعت أصداؤه في عواصم القرار، لا سيما في باريس وواشنطن، حول “حلف الضرورة” الذي يؤمن التوازن الداخلي، ويمنع المسيحيين من الارتصاف في مشاريع المواجهة القائمة، وهي مواجهة ستأتي حتمًا على حسابهم، كونهم الحلقة الأضعف في.المعادلة الداخلية والاقليمية.
فعل الكلام فعله، وظل التلويح بعقوبات تطال شخصيات مسيحية تتحالف مع حزب الله مجرد أقاويل وتكهنات لم تسلك طريقها إلى التنفيذ، حتى أنها باتت ممجوجة ومبتذلة، وفقد الحديث عنها بريقه وشعبيته وأهميته، بعد أن أيقن الجميع بأن الحسابات الكبرى باتت تلحظ هذه المعضلة وتتعاطى معها باهتمام شديد، وتراعي في ذلك حساسية الوضع اللبناني، وصعوبة وضع المسيحيين في المنطقة، وما تعنيه من أنّ أي تحالف سياسي لا يعني الاندماج بقدر ما يعني أنّ للضرورة أحكامها.
الإجراء العملي الأول بدأ بفرض عقوبات أمريكية مباشرة على يوسف فينيانوس، الوزير المسيحي المحسوب على سليمان فرنجية. وقد تسببت هذه العقوبات بموجة ذعر، لا سيما أن الأسباب الموجبة التي استندت إليها الخزانة الأميريكية في اتخاذ هذا القرار، هي نفسها الأسباب التي تنطبق على جميع المسيحيين المتحالفين مع حزب الله، وبالتالي فإنّ هذا التطور شكل الانتقالة النوعية المباشرة من سياسة التفهم والتلويح إلى التنفيذ، وهذا بحدّ ذاته سيظلّ محطّ تأمل ونقاش ومتابعة.
بعد العقوبات على يوسف فينيانوس ليس كما قبلها. ثمة من فهم الرسالة تمامًا، وأدرك أن اللعب على التناقضات والشعارات من أجل تحصيل المكتسبات السياسية ما عاد ممكنًا، وأن الثمن الطبيعي لأي مغامرة من هذا النوع، سيعني حتمًا العزلة والاستهداف والتصنيف
الثابت حتّى الآن، أنّ هذا الموقف لم ينطلق من فراغ، بل تزامن مع تغيّر ملحوظ في خطاب بكركي، وفي عودتها التدريجية إلى أدبياتها التاريخية، وإلى نظرتها ورؤيتها للواقع اللبناني. فالبطريرك الراعي الذي آثر أواسط الأمور على مدى سنوات، عاد إلى التشدّد التراكمي إزاء مختلف الملفات المطروحة، وعلى رأسها قطعًا قضية حياد لبنان، ومعضلة سلاح حزب الله.
هذه المتحركات تعني، في ما تعني، أن الغطاء المسيحي آخذٌ في التقلص، وأن قدرة الأطراف المسيحية على تسويق التحالف مع حزب الله باعتباره ضرورة وطنية ووجودية، بات يرتطم على نحو مباشر بيقين لا لبس فيه، وبإعادة قراءة موسعة، وصلت في نهايتها إلى خلاصة واحدة وحيدة، مفادها أنّ سياسة النعامة لا تؤتي أُكلها، وأن لا سبيل إلا لتسمية الأشياء بأسمائها، بعيدًا من أي توجس أو محاباة.
بعد العقوبات على يوسف فينيانوس ليس كما قبلها. ثمة من فهم الرسالة تمامًا، وأدرك أن اللعب على التناقضات والشعارات من أجل تحصيل المكتسبات السياسية ما عاد ممكنًا، وأن الثمن الطبيعي لأي مغامرة من هذا النوع، سيعني حتمًا العزلة والاستهداف والتصنيف.
حزب الله يعرف ذلك جيدًا، ويعرف أيضًا أنه صار وحيدًا وعاريًا ومكشوفًا، ولا شيء يحميه سوى التواضع والتنازل، وهو سيفعل مرغمًا، ليس كرمى لعيون البلد، بل لأنه بات عبئًا على الجميع، وفي مقدمتهم حلفائه وأقرب المقربين إليه.