يغلب التشاؤم في الأوساط السياسية اللبنانية على الآمال بإمكان الخروج من حال الجمود التي تسيطر على الوضع الحكومي، وسط اعتقاد غالبية هذه الأوساط بأن الظروف الإقليمية هي التي تتحكم بإنهاء الفراغ الحكومي.
ويستند الذين يعتقدون أن الحكومة الجديدة في لبنان لن ترى النور قبل حصول تطور ما على الصعيد الإقليمي يسهل ولادتها، إلى قراءات لما يحيط بلبنان من تطورات وأحداث تجعل اللاعبين الإقليميين غير مكترثين بهذا الاستحقاق، حتى لو أدى إلى مزيد من التدهور في الوضع المالي الاقتصادي، فالمسلّم به أن مفتاح وقف الانهيار المالي الكامل في لبنان ومفاعيله المعيشية المأساوية، هو الحصول على مساعدات مالية تسد مرحلياً النقص في العملة الصعبة التي تشارف على النفاذ في مصرف لبنان قبل نهاية العام، وأن المدخل لتلك المساعدات هو الإصلاحات العاجلة التي يحتاج إقرارها إلى حكومة جديدة لا تُخضع هذه الإصلاحات لبازارات الخلافات السياسية.
وإذا كانت أولوية مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قيام هذه الحكومة بسرعة قد أخفقت، فإن اللاعب الرئيس الذي أفشلها، أي “حزب الله”، عينه على ما يحصل في الإقليم، ويطوع الوضع اللبناني استناداً إلى مجريات الصراع الأميركي – الإيراني، غير آبه بما سيؤول إليه المأزق الداخلي.
قبول الترسيم تعويضاً عن إفشال ماكرون؟
تقول إحدى القراءات للمعادلة الإقليمية، إن “حزب الله” رفض التنازل لمصلحة قيام حكومة لا يتمثل فيها، أسوة باستبعاد القوى السياسية كافة، لأنه يرفض استضعافه نتيجة ما يحصل في محيط لبنان من ضغوط على إيران، فيبقي الوضع الحكومي معلقاً إلى حين وضوح الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولهذا تم ربط الداخل اللبناني بحسابات إيران التي تنتظر الانتخابات الرئاسية الأميركية لمعرفة الوجهة التي سيسلكها رسم خريطة المنطقة.
والأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله، في خطابه في 30 سبتمبر (أيلول) الماضي، مع تسخيفه التحليلات التي تربط موقفه من الحكومة والمبادرة الفرنسية بعناوين خارجية، استثنى عامل ترقب هذه الانتخابات، مما وصفه “الكلام الفارغ” عن حسابات طهران الخارجية التي تؤثر في قرار الحزب الداخلي.
ليونة حيال ضغط العقوبات
وهناك قراءة ثانية غير بعيدة من الأولى، لدى بعض خصوم الحزب، تدعو إلى فهم خلفيات تعليق إيران تأليف الحكومة الجديدة، إذا لم يكن للحزب الأرجحية فيها، انطلاقاً من الإعلان عن قرب التفاوض على ترسيم الحدود البحرية والبرية، الذي أعلن حليف الحزب الأساسي رئيس البرلمان نبيه بري عن “اتفاق الإطار” في شأنه.
ويعتقد هؤلاء أن الحزب بدلاً من أن يقدم التنازل لماكرون، قرر اعتماد الليونة مع الجانب الأميركي بالموافقة على الترسيم مع تنازلات في شكل التفاوض، إذ لم يرد مثلاً ما كان أصر عليه “الثنائي الشيعي” عن تلازم مساري التفاوض على الحدود البرية والبحرية، في الاتفاق.
وفي اعتقاد أصحاب هذه القراءة أن “الثنائي” قبل بما كان معروضاً عليه في المداولات مع مساعد وزير الخارجية الأميركية للشرق الأدنى ديفيد شينكر، ومن سبقه من المسؤولين الأميركيين، بعد صدور العقوبات على معاون بري وزير المال السابق علي حسن خليل، ووزير الأشغال العامة والنقل السابق يوسف فنيانوس (تيار المردة) الحليف للحزب، لأن الاتفاق كان على الطاولة منذ زمن، ولم يقبل به “الثنائي إلا حين أدرك الرسالة، ووافق على بدء مفاوضات الترسيم.
ويضيف هؤلاء تفسيراً آخر لليونة الحزب، وهو انفجار مستودع الذخيرة التابع له في بلدة عين قانا الجنوبية، الواقع شمال نهر الليطاني خارج منطقة عمليات “يونيفيل” في 22 سبتمبر (أيلول) الماضي، ملمحين إلى أنه مفتعل وشبيه بالانفجارات التي تتعرض لها إيران.
التوسع التركي يأخذ من نفوذ إيران
ولا تقف هذه القراءة عند الإشارة إلى أن إطلاق مفاوضات الترسيم هي تعويض عن التنازل في الحكومة، لأنها تجنب حلفاء الحزب مزيداً من العقوبات، بل تعتقد أن تقاطعاً ظرفياً حصل بين طهران وواشنطن لنسف مبادرة ماكرون، بل تعتبر أنه يجب عدم الاستهانة بعامل آخر هو التقدم الذي أحرزه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كسب أدوار إقليمية بالتعاون مع واشنطن، توجّب على طهران التحسب لها.
فبالرغم من أن فرنسا حققت اندفاعة دبلوماسية وعسكرية في شرق البحر الأبيض المتوسط من أجل الحد من النفوذ التركي، فإن القوة الإقليمية التركية يتعاظم دورها، وسجلت نقاطاً على باريس في ليبيا، وحتى على روسيا، فيما برهنت واشنطن عن نفوذها الإقليمي بسحب تركيا من قبالة شواطئ اليونان وقبرص، وفشل التعاون الروسي – الإيراني في سوريا في تحجيم الدور التركي في شمال بلاد الشام وفي إدلب، التي شهدت قبل أيام قصفاً تركياً لميليشيات موالية للجانب الإيراني، وتعاوناً أميركياً – تركياً، هذا فضلاً عن الحديث عن إمكان حصول مفاوضات غير مباشرة بين النظام السوري و إسرائيل التي تواصل قصفها مناطق تجمع القوى العسكرية الموالية لطهران في المناطق السورية كلها.
يضيف أصحاب وجهة النظر هذه أن أنقرة أخذت تستخدم الأسلوب نفسه الذي تعتمده طهران، فتأتي بالمقاتلين السوريين الحلفاء لها إلى ليبيا ثم إلى ناغورنو قره باغ في الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، وتنحاز إلى الأخيرة في مواجهة حليف طهران الأرمني، مثلما استقدم الحرس الثوري الإيراني ميليشيات “فاطميون” و”زينبيون” و”عصائب أهل الحق” و”حزب الله” إلى سوريا واليمن، في مواجهة نفوذ أميركا ودول الخليج، كما أن أردوغان وسّع تدخلاته في العراق، في مقابل الضغوط على الدور الإيراني فيه.
ويشير هؤلاء إلى أنه في وقت تختبر إسرائيل أسلحتها الدقيقة عبر أذربيجان، فلا بد لإيران أن ترصد مفاعيل توسع الدور التركي المدعوم أميركياً، لا في شرق المتوسط وسوريا وحسب، بل في منطقة آسيا الوسطى والدول المحاذية لها أيضاً، وفي أفغانستان وباكستان، وتأثيره في موقف الإسلام السني في هذه الدول، وبالتالي في لبنان، مع ملاحظة أن الدول العربية المعنية هي الأقل تأثيراً في ما يدور من صراع على النفوذ بين أنقرة وطهران. ويخلص الذين يراقبون دينامية الأحداث الإقليمية إلى أن الدول المعنية كلها تتعامل مع مسألة تأليف حكومة في لبنان، وتداعيات استمرار الفراغ فيه، على أنه آخر همها.
ليونة وتشدد في لبنان
في المقابل، هناك قراءة ثالثة ترى في ما يحصل في الإقليم بأنه يوجه اهتمام “حزب الله” ومن ورائه طهران، نحو لعبة الأمم قياساً إلى الوضع اللبناني الداخلي، ويحمله على أن يتشدد في موضوع الحكومة، لكنه في الوقت نفسه يستفيد من أخطاء الآخرين على الصعيد اللبناني، ومن سوء تقدير للموقف في إدارة المبادرة الفرنسية، بحيث تمكّن من إحباطها، من دون أن يقلق من انعكاسات ذلك على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، لاعتقاد قيادته بأنه أقل المتضررين من الانهيار الآتي.
ويلفت أصحاب هذه القراءة إلى أنه بالرغم من الليونة التي أبداها “الثنائي الشيعي” في الإقبال على التفاوض على الحدود، فإن سبب تأخير إعلان انطلاقتها لم يكن متوقفاً عليه وحده، بل إن الجانب الإسرائيلي كان هو الآخر ينتظر منذ إنجاز مسودة “اتفاق الإطار” اكتمال عناصر اتفاق التطبيع مع الإمارات والبحرين، ليأتي التفاوض على الحدود مع لبنان كخطوة مكملة بالنسبة إليه.
وفي كل الأحوال، فإن انطلاق التفاوض على الحدود لا يلغي إبقاء العقوبات الأميركية سيفاً مصلتاً على حلفائه اللبنانيين، خصوصاً أن الاتفاق على المساحة المتنازع عليها في البحر بين لبنان وإسرائيل قد يأخذ وقتاً، ويمتد إلى ما بعد هذه الانتخبات، ما يعني أن كل فريق سيعمل على إبقاء أوراقه في يده حتى النهاية غير المحددة التاريخ.
رد عسكري في العراق على الضغوط
ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن طهران ترد على الضغوط التي تتعرض لها في العراق بقصف مركّز على القواعد الأميركية، وتسعى لاستعادة المبادرة في بلاد الرافدين، بعدما كانت أجبرت في الأشهر الماضية على القبول برئاسة مصطفى الكاظمي لرئاسة الحكومة، بحيث تواصل قبل حلول الانتخابات الرئاسية الأميركية، الضرب على وتر الانسحاب الأميركي من العراق، عبر العمليات التي باتت تستهدف حتى الوجود الأميركي في أربيل الكردية.
كما أن اهتمام الجانب الإيراني في انتظار الانتخابات الرئاسية الأميركية لا يعني أن الأمور بعدها ستتغير، إذ إن الضغط الأميركي على الحزب في لبنان لن يتوقف، فيجعله متشدداً أكثر في تأليف الحكومة، وحتى في مفاوضات الترسيم.