الكلّ كان يعلم ان الحرائق ستشتعل. ففي تشرين من كل عام، تندلع نيرانٌ- مفتعلة ام لا، مَن يدري- لتلتهم اليابس، وما بقي من أخضر، في هذا البلد… الا ان اي اجراءات احترازية فعليّة لم تتخذ، تماما كما حصل مع “امونيوم المرفأ”، الذي عرف اهل السلطة جميعهم بوجوده بين المدنيين، ولم يتحرّكوا. غير ان اخفاقات الحكم المتراكمة على الصعد كافة، قوبلت العام الماضي بانفجار شعبي غير مسبوق.
فكان ان اشتعلت، في اعقاب اشتعال غابات لبنان، ثورةٌ شعبية قلبت المعادلات الداخلية واسقطت حكومات وهزّت عروشا وكسرت هالات… فهل سيكون الرد “الشعبي” على مسلسل الانهيارات المتوالي فصولا، على يد السلطة عينها، والذي بلغ درجات قاتلة معيشيا وماليا واقتصاديا وصحيا وبيئيا، شبيها بالانتفاضة التي قامت في 17 تشرين 2019؟ هذه الثورة عائدة لا محالة، وبأوجه أقوى وأشمل، اذا لم تسرع القوى السياسية الى تغيير سلوكها.
فهل اتّعظت؟ هل ستتدارك وضعها وتسهّل تشكيل حكومة انقاذ حقيقية؟ الجواب لن يتأخر وسيتظهر في قابل الايام مع تبيان مصير “المخرج” الذي اقترحه الرئيس سعد الحريري: فاذا كتبت له الحياة وعاد الى السراي عقب استشارات الخميس المقبل، ارتفعت حظوظ انتشال لبنان من الحفرة انطلاقا من المبادرة الفرنسية – طبعا اذا كان الحريري أمّن دعما عربيا وخليجيا وغربيا (اميركيا واوروبيا) لما هو في صدده – أما اذا لم يُكلّف، فإن بيروت ستكون تسرع الخطى نحو الانهيار الشامل…
اتصالات الحريري: تنتظر القوى السياسية كلّها ما سيحمله اليها الرئيس الحريري في الجولة التي سيبدأها في الساعات القليلة المقبلة، عليها، شخصيا او عبر موفدين، لتحدّد موقفها من تسميته او لا، في الاستشارات النيابية التي دعا اليها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الخميس المقبل في قصر بعبدا.
فبعد سلسلة مشاورات سيجريها مع قيادات “تيار المستقبل” ورؤساء الحكومات السابقين والقيادات الروحية السنية، سيبدأ الحريري مطلع الاسبوع اتصالاته بالكتل النيابية والاحزاب.
زعيم “المستقبل” سيسألها عن مدى التزامها ببنود المبادرة الفرنسية لناحية الاصلاحات والتعاون مع صندوق النقد الدولي، وعن دعمها لحكومة اختصاصيين. فاذا لمس منها تجاوبا مضى في المهمّة، اما اذا لمس تصلّبا، لا سيما لجهة تمسّك الاحزاب بتسمية وزرائها في الحكومة، بما يفقدهم استقلاليتهم، فإنه سينسحب من اللعبة.
تحسين شروط التفاوض: وليس بعيدا، قالت مصادر امل وحزب الله اليوم ان “تسمية وزرائنا قدر متيقّن، ويجب ان نكون شركاء في التشكيل عبر تسمية وزرائنا، وسنبقى نطرح اسماء الى ان يرضى عنها الرئيس المكلف”.
وفي وقت وضعت هذا الموقف في خانة “تحسين شروط التفاوض،” اعتبرت مصادر سياسية مراقبة لـ”المركزية”، ان الكل حتى الساعة، وعلى رأسهم الثنائي الشيعي وفريق الرئاسة – التيار الوطني الحر، لا يبدون في صدد التشدد، لعلمهم ان في عودة الحريري الى السراي، مكسبا لهم، خاصة اذا كانت هذه العودة تحظى بضوء اخضر خليجي – اميركي، واذا كانت مبادرة الحريري تلحظ ايضا تنسيقا في تسمية الوزير الشيعي للمالية بينه والثنائي… فهو باستلامه الرئاسة الثالثة، يمكنه ان يعوّم العهد اذا نجح في فتح ابواب المساعدات الدولية للبنان، كما انه سيؤمّن مظلّة واقية لحزب الله وحركة امل، تقيهما شر العقوبات التي لا ترحمهما… الا ان هذه المعادلة تصلح “اليوم”.. ففي بلد تدين قواه في معظمها بالولاء للخارج، قد تستدعي التطورات الاقليمية، عرقلة المبادرة الفرنسية في نسختها “الحريرية”، مرّة جديدة، لأغراض اقليمية متصلة بالاشتباك الايراني – الاميركي.
وعندها، ستعود الشروط والعراقيل لترتفع، فتُسقِط اقتراح الحريري وتُبقي الاستحقاق الحكومي ولبنان مرهونين بالتطورات الخارجية واوّلها الانتخابات الرئاسية الاميركية.
قوى 8 آذار: خريطة المواقف من تكليف الحريري، لم تتظهر معالمها بعد. وفي انتظار اجتماع الكتل لحسم قرارها في الايام المقبلة، القوات اللبنانية تبدو وحيدة تحلّق خارج سرب تسمية الحريري.
اما الاشتراكي، فيبقي الابواب مفتوحة على كل الاحتمالات.
وفي وقت تقول المصادر ان موقف فرقاء 8 آذار سيتأثر بقوة، بما ستتوصل اليه محادثات الحريري – الثنائي الشيعي، رأى النائب طوني فرنجية أن المدخل لاخراج البلد من الازمة هو المبادرة الفرنسية، واشار الى أنه ان كانت للرئيس الحريري اليوم ضمانات سيكون عندها افضل من غيره لرئاسة الحكومة انقاذا للمبادرة “ولكن لم نحسم خيارنا بعد”.
وعن الحقائب الحكومية، اعلن أنه سينتطر ما سيتم عرضه عليهم والمعايير التي ستوضع طالبا من الجميع تسهيل تأليف الحكومة.
بدوره، أوضح الأمين العام لحزب الطاشناق النائب أغوب بقرادونيان، أن “كتلة النواب الأرمن لم تتخذ بعد قرارها النهائي في مسألة تسمية الرئيس المكلف في الاستشارات، على أن تقوم الكتلة بتحديد قرارها مساء الأربعاء”.
وشدد في حديث اذاعي، على أن “الرئيس الحريري يعرف جيدا أن الطاشناق كان من أكثر المصرين على تسميته في وقت لم تكن بقية الكتل متمسكة به، ولكن موضوع تسميته في الاستشارات المقبلة منوط بما سيعلنه الحريري في الأيام المقبلة عن استعداده لتشكيل الحكومة”.
واعتبر أن “المبادرة الفرنسية لا تزال قائمة، وخصوصا أن جميع الكتل السياسية مستمرة في تأييد مضمون الورقة الإصلاحية المتفق عليها في لقاء قصر الصنوبر في الأول من أيلول الماضي بمن فيهم حزب الله”.
نتنازل لوقف الانهيار: الى ذلك، اعتبرت الهيئة السياسية في التيار الوطني الحر ان “أن الأولوية المطلقة، لا تزال لتنفيذ البرنامج الإصلاحي تحت مسمى المبادرة الفرنسية، وهي ترى لذلك أولوية في تشكيل حكومة إصلاحية منتجة وفاعلة برئيسها و وزرائها وبرنامجها.
اما كل كلام آخر فهو خروج عن المبادرة الفرنسية ويتحمل صاحبه مسؤولية إضاعة المبادرة وتضييع الفرصة بحثاً عن حلول أخرى، من الواضح أنها غير ناضجة وأنها ليست سوى تكرار لسنة كاملة من المواقف تحت عنوان “أنا أو لا أحد، وانا ولا احد”، فيما المطلوب اعتماد معايير واضحة، متساوية وعادلة لتأليف الحكومة.
وتابعت “اما إعادة طرح تشكيل حكومة بالمعايير السياسية التقليدية، فهو امر ممكن، لكنه يكون خارج سياق المبادرة الفرنسية، وهذا له شروطه الخاصة التي نتمسك بها لناحية موجبات الدستور وشرعية التمثيل النيابي التي لا نتنازل عنها إلاّ لصالح صيغة حكومية، يكون هدفها وقف الانهيار، شرط أن تكون مؤلفة على قاعدة المساواة والتساوي بين اللبنانيين”.
وفي هذا الإطار، أكد التيار “موقفه المبدئي بأحقية كل طائفة أو مكوّن او فريق سياسي بالحصول على أي حقيبة وزارية من دون التسليم بوجود موانع هي أصلا غير دستورية”.
مفاوضات الترسيم: أسبوع الحسم الحكومي، سيشهد ايضا حدثا استثنائيا يتمثل في انطلاق مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل بوساطة اميركية ورعاية “أممية”- وربّ رابط بين المسار الحكومي والتوصل الى “الاتفاق الاطار” هذا – حيث تعقد اولى جولات المحادثات في الناقورة في 14 الجاري في حضور مساعد وزير الخارجية الاميركية دايفيد شينكر.
وفي وقت لا تزال طبيعة الوفد اللبناني ومستوى التمثيل فيه محط اخذ ورد، حيث يريده الثنائي الشيعي تقنيا بحت، وفي انتظار ما سيقرره رئيس الجمهورية في هذا الاطار، اجتمع قائد الجيش العماد جوزاف عون، إنفاذا لتوجيهات رئيس الجمهورية، في مكتبه في اليرزة، مع الوفد المكلف ملف التفاوض لترسيم الحدود.
وخلال الاجتماع، أعطى قائد الجيش التوجيهات الاساسية لانطلاق عملية التفاوض بهدف ترسيم الحدود البحرية على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة برا والممتد بحرا تبعا لتقنية خط الوسط دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة. استنادا الى دراسة أعدتها قيادة الجيش وفقا للقوانين الدولية”.
لوفد تقني: وليس بعيدا، رأى الحزب التقدمي الاشتراكي انه “إزاء إعلان العدو الإسرائيلي عزمه تشكيل وفد سياسي، لا تقني فقط، إلى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يصبّ في صلب الهواجس التي كان أشار إليها الحزب التقدمي الإشتراكي في بيانه بتاريخ 2 تشرين الأول، فإننا نُجدد التحذير من مغبّة وقوع السلطات اللبنانية في فخّ الإنجرار لإجراء تعديلات على أعضاء الوفد اللبناني عبر إضافة شخصيات ذات طابع سياسي”.
وأكد الحزب التقدمي موقفه بأن “ترسيم الحدود مسألة قانونية – تقنية – فنية محض، وعليه فإن التفاوض يجب أن يكون حصراً ضمن هذا الإطار، وأعضاء الوفد اللبناني يجب أن يكونوا حصراً من ذوي الكفاءة في الاختصاصات ذات الصلة، أما الاتجاه في خيارات أخرى فمن شأنه خلق إنقسام داخلي، في وقتٍ يجب أن يكون الجميع يداً واحدة لحماية حقوق لبنان السيادية وثرواته الطبيعية، ومحاولة إنقاذه من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي”.