قبل أسبوع، تبلّغ مسؤولون لبنانيون خلاصة اتصالات روسية سورية، تفيد أن موسكو ستتخذ قراراً بضرورة حسم الأوضاع في سوريا، وتثبيت ركائز النظام السوري. وما يعنيه ذلك، هو الارتباط العضوي سياسياً بين دمشق وبيروت. وما ينسحب هناك يجب أن ينسحب على لبنان بما يخص الالتفاف على التحركات والاحتجاجات الشعبية بخيارات سياسية. “العهد” في لبنان وحليفه حزب الله هما رأس قيادة المحور هنا. ولا بد من ترتيب وضعيتهما. هذه الموجة الأساسية التي يراهن عليها رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل لتثبيت ركائز السلطة بيدهم بالتعاون مع حزب الله.
مصير الحكومة
لذلك، كان الاتجاه الأساسي بالنسبة إليهم تشكيل الحكومة وفق ما يشتهيان، ووفق ما تقتضيه مصلحتهما. اعتبر باسيل أنه لا بد من الرهان على هذه الظروف لاستعادة ما خسره في 17 تشرين. فرض الشروط التي يريدها في عملية تشكيل الحكومة، بالحصول على الثلث المعطل، واشتراط بقاء مستشاريه في الوزارات التي قد لا يتسلمها تياره. ما يعني العودة إلى ممارساته السابقة، مدعوماً بجو إقليمي حليف. الطارئ الوحيد الذي دخل على المشهد هو اغتيال قاسم سليماني، والذي أخذ بنظرة عامة وكأنه قابل لتفجير المنطقة، وسيفرض متغيرات في الشرق الأوسط ومن ضمنها لبنان.
غلبت اللهجة التصعيدية على لهجة المساومات والتسويات بانتظار الردّ الإيراني. وبعد تهديد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، اتجهت الأنظار نحو ما سيفعله الحزب ردّاً على اغتيال سليماني. وكانت الأسئلة الأساسية تتركز حول إمكانية تشكيل الحكومة بعد تبدّل الظروف المعطيات. كانت القراءة الموضوعية تفيد أن من مصلحة الحزب تشكيل الحكومة العتيدة، برئاسة حسان دياب. وستكون حكومة حزب الله لكن بنكهة تكنوقراط قابلة للتسويق الخارجي. إلا أن هناك معطيات تغيرت على ما يبدو، دفعت القوى العاملة على خطّ تشكيل الحكومة إلى التريث، على الرغم من أن رئيس الجمهورية كان يستعجل التشكيل سريعاً.
جبران وتصفية الحساب
يعرف الحزب أن المقاربة السياسية تحتاج إلى تغيير، وهو يريد حكومة لا تكون ضعيفة أو سهلة الاستهداف في الداخل اللبناني، ولا يمكن تشكيلها واستثناء قوى سياسية أساسية منها، لا سيما أن المرحلة تحتاج إلى وزراء سياسيين على قدرها. ولذلك رفض حزب الله تعيين ناصيف حتي وزيراً للخارجية، باعتباره كان يميل إلى قوى 14 آذار، أو بالحد الأدنى هو مستقل حالياً. المرحلة لا تسمح بذلك. وزارة الخارجية يجب أن تكون مع الحزب، سنداً له في سياسة لبنان تجاه المجتمع الدولي.
هنا بدأ الوزير جبران باسيل يلعب على أكثر من خطّ. الأول، حاجة حزب الله إليه. الثاني، تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين. الثالث، تكريس نفسه من دون منازع صانعاً لهذه الحكومة، بما يتلاءم مع طموحاته والتوازنات التي يريد أن يفرضها. الرابع، تقديم صورة مغايرة لما هوعليه الواقع، من خلال إطلالته التلفزيونية. فاعلن أن لا علاقة له بالحكومة! واعتبر أنه ضحى بذاته في سبيلها ولتسهيل ولادتها! قدّم نفسه المخلّص، الساعي لتحقيق مطالب المنتفضين! مدعياً عفة تنزّهه عن شركائه الآخرين في تركيبة السلطة، التي كان هو أساسها منذ ثلاث سنوات!
إنه جبران باسيل الذي لا ولن يتغير. استمر بإلقاء المسؤولية على الآخرين. قدم نفسه البريء الوحيد، ونفى تمسكه بالخارجية أو أنه رفض تعيين دميانوس قطار. واستند في تمسكه بها على حاجة الحزب إلى هذه الوزارة. واستعرض باسيل قوته أمام الحزب بالأمس من خلال لقاءاته واستقبالاته لعدد من السفراء، بينهم الأميركية والبريطانية، ليقول للحزب إنه الوحيد القادر على اتخاذ المواقف الدولية التي تلائمه استراتيجياً. فباسيل يدين اغتيال سليماني ويصفه بالشهيد وبالوقت نفسه يستقبل السفيرة الأميركية.
الرسالة الإسرائيلية والحركة الروسية
لقاءات باسيل هدفت إلى القول إن العمل اللبناني حثيث لتجنّب أي تصعيد قد يطال في لبنان. وهو يتزامن مع نقل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش رسالة من الإسرائيليين إلى الدولة اللبنانية، تشير إلى أن لا علاقة لإسرائيل باغتيال سليماني ولا بتداعياته. وأنها تريد الهدوء ولا تريد توتير الأجواء مع لبنان، ولا فتح أي جبهة. كما حملت الرسالة تحذيراً بأن أي تصعيد من قبل الحزب سيؤدي إلى تصعيد كبير من قبلها.
كل المحاولات كانت تصب في سبيل عدم التصعيد العسكري. وكما في لبنان كذلك في إيران، التي ستكون أمام ردّ حتمي، ولكن هي تريد الاستثمار السياسي إلى أقصى درجة ممكنة بعد اغتيال سليماني. وحتّى الرد العسكري، تريد له إيران أن يكون عاملاً لتحقيق مكاسب سياسية بدلاً من تضييع كل شيء في خطأ عسكري. هنا عاد الدخول الروسي على الخطّ، بحضور فلاديمير بوتين إلى سوريا، والرسالة الكبرى التي حملتها الزيارة أن سوريا هي حصة روسيا، ويجب إبعاد أي تجاذبات إيرانية أميركية عنها. كما أنه يقول إن النظام السوري بحمايته. خطوة بوتين نحو سوريا لا يمكن أن تنفصل عن تنسيق معين مع الأميركيين، الذين يتأرجحون بين الانسحاب والبقاء. والأمر نفسه ينسحب على الوضع في العراق. إعلان الأميركيين الانسحاب سيكون عبارة عن بازار سياسي مفتوح، يستفيد منه الإيرانيون دعائياً، ويستفيد منه ترامب داخلياً. كما سيستفيد منه مالياً عبر دول الخليج التي ستكون مطالبة ببقاء الوجود الأميركي.
الانقضاض على السلطة
زيارة بوتين إلى دمشق منحت دفعاً معنوياً لعون وباسيل. وسيحاولان الاستثمار به سياسياً، كما حزب الله سيستثمر بتهديداته بالرد على اغتيال سليماني في الداخل اللبناني، عبر الانقضاض أكثر على السلطة. وهنا تصبح الحكومة مجرد تفصيل. لكن الأكيد أن الحزب وباسيل يريدان الإمساك بها. ولتبرير تسييسها، يريدان أن يعود طرح حكومة تكنوسياسية، تضم كل القوى السياسية، ويكون الحزب فيها قادراً على فرض رؤيته عليها. فحكومة اللون الواحد لن تحظى برضى المجتمع الدولي، وستكون سهلة الاستهداف في الداخل.
تبقى الغاية بالنسبة إلى الحزب هي الوصول إلى تسوية وتفاهم بعد كل هذا التصعيد، بشرط أن تكون التسوية بأفضل الشروط. لا يريد الحزب الذهاب إلى أي مغامرة لا يتحملها لبنان ولا بيئته الحاضنة ولا حتى الوضع الإقليمي. فرصة الربح الأساسية هي في السياسة وليس في أي معركة. هنا يأتي اغتيال سليماني في إطار محاولة أميركية لفتح مرحلة جديدة في المنطقة، كان الرجل من أبرز معيقيها. لكن لا شك أن طهران وحلفاءها سيستفيدون سياسياً إلى أقصى الحدود مما جرى، تماماً كما تفعل موسكو منذ لحظة توجه بوتين إلى دمشق.