بائع الأوهام طالب بأن لا يُباع الناس أوهاماً حول حلول قريبة لأزمة لبنان الاقتصادية. فهذه، بحسبه، نتاج سنوات وعقود طويلة ولن تحلّ “بسنة وسنتين”!
لوهلةٍ لاح لي أنّ الحلّ قد يطول إلى ما بعد تحرير فلسطين، وإنهاء الهيمنة الأميركية على العالم، وهما مهمّتان يُشعِرك خطابه كل مرة أنّهما مؤجلتان فقط لظرف مناخي طارىء أو لكسلٍ داهمٍ أصاب مزاج المقاومة.
بائع الأوهام حريص على الناس. لا يريد لهم أن يطمعوا بالكرامة والعزّة والإباء والرخاء والاستقرار عمّا قريب، حيث إننا ما نزال في “فصل الخطاب”، أكثر فصول المأساة اللبنانية طولاً وتجدّداً…
بائع الأوهام باع نفسَه وهماً جديداً، مثبتاً بكل بساطة أنه خارج صورة الأحداث وطبيعة المشكلة.
حذَّرَنا مراراً من الحرب الأهلية.
شرح لنا، بخبراته السورية والعراقية واليمنية، أنّ سلاح الحرب هذه ليس الصواريخ الدقيقة، بل أنواع من البنادق والرشّاشات والقاذفات الصاروخيّة المتوسّطة.. فاته أنّ الحرب الأهلية هي بين “الأهل” أولاً، لا بين الرشّاشات. والأهل، لا سيّما الفِتية والشبيبة، يغادرون البلد بسرعات قياسيّة.. نَزْفٌ طبيّ، وتمريضيّ، وقضائيّ، وطالبيّ، ونَزْف من رجال أعمال، أصحاب كفاءات، وجزء من طبقة متوسطة متآكلة باعت ما تيسّر لها بيعه قبل اكتمال قوس الانهيار، وتوزّعت بين الخليج وأوروبا وأبعد، حتّى في زمن كورونا وانهيار العملة الوطنية وشحّ الدولار وغيرها من العقبات التقنيّة الضاغطة على حركة البشر.. ومن بقي يتهيّأ للموجة الكبرى المقبلة بعد سيطرة العالم على الجائحة.. فمَن سيحارب مَن ولأيّ هدف وبتمويل مِمَّن وتسليح مِمَّن؟
بائع الأوهام حريص على الناس. لا يريد لهم أن يطمعوا بالكرامة والعزّة والإباء والرخاء والاستقرار عمّا قريب، حيث إننا ما نزال في “فصل الخطاب”، أكثر فصول المأساة اللبنانية طولاً وتجدّداً
بائع الأوهام اختار أهدافاً داخلية أبرزها سعد الحريري ورياض سلامة و”قائد الجيش”.. “مَرْجَلة” على الحريري وسلامة؟ حقاً؟ أم مجرّد محاولة بائسة لإعطاء الناس عنواناً لتنفيس الغضب والإحباط؟ حتّى قائد الجيش بموقفه النزيه الذي أربك كل الطبقة السياسية حين قرر أن ليس وظيفة العسكري الجائع قمع أخيه المواطن الجائع.. حتّى قائد الجيش سيجد نفسه أمام مؤسّسة مفكّكة عند أي تحدٍّ جدّيّ يرتدي طابع النزاع الأهلي.
ماذا بوسعه أن يفعل بعد فتح الطرقات بالقوّة ومنع التظاهرات بالقوّة والسيطرة على السوشيل ميديا بالقوّة؟ ماذا سيحصل؟ سنحصل على إيران جديدة.
أيْ بلد يتعفّن بصمت بدل أن يتعفّن بصوت أنين وحشرجات مرتفعة.
بائع الأوهام عاد إلى نغمة قديمة جديدة، لا قيمة لها إلا التأكيد مجدداً أنّه يعيش خارج مدار الكوكب اللبناني المشتعل.
يريد حكومة تكنوسياسية بحجّة أنّ حكومة التكنوقراط أو الاختصاصيين ينبغي حمايتها من القوى السياسية كي تقدر على اتخاذ القرارات الصعبة وحمل كرة النار!
مَنْ يحمي مَنْ ومَنْ لديه القدرة على توفير الحماية أصلاً؟
لا يريد أن يعترف أنّ الناس، منذ 17 تشرين الأول 2019، كسروا كلمته غير مرّة، وهزموه في الشارع يوم أسقطوا حكومةً وضع كل ما يملك لحمايتها، وصرخ في الناس أنّهم لا يستطيعون إسقاطها… وسقطت.
ألم تكن حكومة حسان دياب بعدها حكومة تكنوقراط بحماية مباشرة من حزب الله؟ماذا فعل التكنوقراط والحماية السياسية كي ينجو اللبنانيون من زلزال المرفأ؟ ثمّ سقطت.
بماذا ستختلف حكومة الاختصاصيين المحميّة من القوى السياسية عن حكومتيْ الحريري وحسان دياب المستقيلتين بضغط من الشارع؟
بائع الأوهام لا يريد أن يعترف أنّ المشكلة في مكان آخر تماماً.
وأنّه هو، بشخصه وحزبه وسلاحه ومحوره، جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحلّ.
بل الجزء الأهم والأخطر والأكثر تعقيداً في المشكلة التي يتشارك المسؤوليّة عنها مع منظومة المافيا المستتبعة له.
يتأكّد المرء من ذلك حين ينصت إلى أنواع الحلول المقترحة، كشراء النفط من إيران بالليرة اللبنانيّة.
إنّ أفضل نتيجة لهذا الخيار ستكون توفير المحروقات للبنانيّين في مقابل سقوط لبنان وشركاته ودولته في بئر العقوبات العميقة، سقوطاً مختلفاً وأكثر شراسةً عمّا هو سائد راهناً. ونِعْم الأفكار النيّرة.
بائع الأوهام يقاتل طواحين الهواء. كان يريد أن يشطب إسرائيل ويهدي “الموت لأمريكا” فصار يناطح رياض سلامة، العاجز عن زيارة عيادة أو مطعم أو فندق، وسعد الحريري الذي يملأ الوقت بصور زيارات خارجيّة، إثباتاً لماضي الحريريّة المجيد.
كان يريد أن يمثّل “الأمّة”، وانتهى يتوعّد شعباً أعزل جائعاً يائساً عاطلاً عن العمل، يُفرغ شحنات ألمه بقطع طريق هنا أو تظاهرة مرتجلة هناك.
بائع الأوهام عاد إلى نغمة قديمة جديدة، لا قيمة لها إلا التأكيد مجدداً أنّه يعيش خارج مدار الكوكب اللبناني المشتعل. يريد حكومة تكنوسياسية بحجّة أنّ حكومة التكنوقراط أو الاختصاصيين ينبغي حمايتها من القوى السياسية كي تقدر على اتخاذ القرارات الصعبة وحمل كرة النار
لا يا حضرة البائع. حلّ لبنان أبسط بكثير ممّا يروّج له.
الدولة غير مفلسة. لدى اللبنانيين خارطة طريق مباشرة مكوّنة من التالي:
1- 11 مليار دولار عبر مؤتمر سيدر.
2- 5 مليارات دولار عبر صندوق النقد الدولي.
3- 10 ملايين أونصة ذهب تساوي قيمتها أكثر من 17 ملياراً ممكن تسييل أو رهن جزء منها.
4- بيع بعض القطاعات أو التشارك فيها مع مستثمرين (مرفأ، مطار، كهرباء، عقارات…. الخ).
دعْ جانباً أن انطلاقة عجلة نهوض حقيقية ومعالجة سياسية جذرية للحدود البحرية ومزارع شبعا ستفتح مجالات استثمارية غير منظورة الآن بمبالغ أكبر بكثير من الواردة في البنود أعلاه.
المطلوب فقط أن يسحب بائع الأوهام سلعة الوهم من الأسواق اللبنانيّة. الأمر الذي لن يحصل قريباً للأسف، وبالتالي سيستمرّ الانهيار وسيتّخذ أشكالاً أعنف، حتّى لو شكّل حكومةً تأخذ ثقتها من حارة حريك وتعقد جلساتها في مجمع سيّد الشهداء.
في إحدى الجلسات مع مسؤول عربي كبير، قال لي إنّ فريقه أعدّ دراسة عن لبنان عامي 2009/2010 بعد الانتخابات النيابيّة، خلصت إلى أنّ لبنان قادر على جذب ما بين 170 ملياراً إلى 200 مليار دولار استثماراتٍ أجنبيّةً، وأنّ حكومة بلاده وضعت أولويّات استثمارية لها في لبنان ما لبثت أن وضعتها على الرفّ.
الأهمّ أنّه أضاف: “تغيّرت فكرة النموّ اليوم عمّا كانت عليه في منتصف القرن العشرين، حيث إنّ مصائب قوم عند قوم فوائد”… ورأى أنّ العلاقة الترابطيّة بين الاقتصادات وأنماط الإنتاج والاستهلاك في العالم حوّلت الأمر إلى “فوائد قوم عند قوم فوائد”، متأسّفاً على الفرص الضائعة على اللبنانيّين وعلى من يحبّون لبنان.
بائع الأوهام لديه حلّ أفضل: ازرعوا البقدونس على الشرفات وتقاسموا، مع الأرحام والجيران، فتات الدولارات التي آتيكم بها من خزائن ولاية الفقيه أو تجارة مافيا المخدّرات في غرب أفريقيا وأميركا اللاتينيّة… وأعيروا جماجمكم لله.