جريمة رفيق الحريري

25 مارس 2021
جريمة رفيق الحريري
خيرالله خيرالله
خيرالله خيرالله

ارتكب رفيق الحريري جريمةً لا تُغتفر. حوّل الحلم اللبنانيّ إلى حقيقة. أعاد لبنان إلى خريطة المنطقة.

بالغ إلى حدّ الجنون في رهانه على لبنان واللبنانيّين. بالغ إلى درجة أنّه جعل اللبنانيّين يصدّقون بعد حربهم الطويلة بين 1975 و1990 أنّ لبنان عاد بلداً يمكن العودة إليه والعيش فيه في ظلّ بحبوحة ورغد.

اقتنع هؤلاء بأنّ لبنان بلدٌ تحلو فيه الحياة، بلد فيه مدرسة وجامعة ومستشفى وكهرباء وماء ومن يجمع النفايات.

فيه أيضاً فنادق ومطاعم وفيه خدمات وفيه مسرح وسينما وطرقات… وفيه، قبل كلّ شيء، بيروت التي عادت بين ليلة وضحاها أجملَ مدن المتوسّط، بل لؤلؤة المدن، التي تعجّ بالحياة والفرح، والموجودة على شاطئ هذا البحر.

رفضت بيروت أن يكون مصيرها مصير الإسكندرية في مصر أو سميرنا (إزمير حاليّاً) في تركيا.

استعادت بيروت أمجادها.

عاد إليها العرب والأجانب فلم يعُدْ من غرفةٍ شاغرةٍ في فنادقها. بدأت بيروت تتحوّل فعلاً إلى مدينة عالميّة بعدما ضاق مطارها بعدد الذين يسافرون أو يأتون عبره.

أثبت رفيق الحريري أنّ بيروت ترفض الموت وترفض “الخطّ الأخضر” الذي استعان حافظ الأسد في مرحلة معيّنة بجيش التحرير الفلسطينيّ كي يثبّته ويفصل بين الشرقيّة المسيحيّة والغربيّة المسلمة!


ارتكب رفيق الحريري جريمةً لا تُغتفر. حوّل الحلم اللبنانيّ إلى حقيقة. أعاد لبنان إلى خريطة المنطقة. بالغ إلى حدّ الجنون في رهانه على لبنان واللبنانيّين


لعلّ أسوأ ما في جريمة رفيق الحريري، التي بدأت بإعادة الحياة إلى بيروت تمهيداً لإعادة الحياة إلى لبنان، أنّ اللبنانيّين صدّقوه.

عاد كثيرون إلى البلد. بين الذين عادوا واستثمروا في لبنان عددٌ لا بأس به من المسيحيّين الذين هجّرتهم حرب الإلغاء التي شنّها ميشال عون على “القوّات اللبنانيّة” في أثناء وجوده في قصر بعبدا في عاميْ 1989 و1990 رئيساً لحكومة موقّتة.

عملت تلك الحكومة، التي استقال منها الوزراء المسلمون، كلّ شيء باستثناء ما كان عليها عمله. لم تؤمّن انتخاب رئيس للجمهوريّة خلفاً للرئيس أمين الجميّل الذي غادر القصر فور انتهاء ولايته.

كان لا بدّ من معاقبة رفيق الحريري على جريمته الموصوفة، بما في ذلك إعادة بيروت عاصمةً للإعلام العربيّ والأجنبيّ.

في أيّام رفيق الحريري، عادت الفضائيّات والصحف العالميّة ووكالات الأنباء إلى بيروت حيث أنشأت مكاتب لها تغطّي كلّ المنطقة.

في أيّام رفيق الحريري كان موسم الهجرة إلى بيروت لا الهجرة منها، كما هو حاصل حالياً.

كان لا بدّ من معاقبة رفيق الحريري.

ما نراه اليوم من مشاهد محزنة، من نوع ارتكابات رئيس الجمهوريّة ميشال عون وصهره جبران باسيل اللذيْن يعتقدان أنّ في الإمكان استعادة حقوق المسيحيّين بسلاح “حزب الله”، تتويجاً لمسار طويل.

صار عمر هذا المسار 16 عاماً.

لم يكتفِ الذين أرادوا معاقبة رفيق الحريري بتفجيره مع رفاقه في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. لقد ذهبوا أبعدَ من ذلك. فكّكوا كلّ ما بناه الرجل مؤسسةً تلو أخرى وحجراً بعد آخر. مطلوب أن تكون بيروت مدينة أشباح ولا شيء آخر.

هذا ما يفسّر الحملات التي تعرّضت لها المصارف في مرحلة معيّنة تحت شعار “ليسقط حكم المصرف”.

هذا ما يفسّر الحملة على الجامعة الأميركيّة في بيروت وعلى كلّ ما له علاقة بالعلم والمعرفة في لبنان.

في الطريق إلى الانتقام من رفيق الحريري، جرى تحطيم بيروت كي لا تقوم لها قيامة يوماً.

لم يعُد لبنان في تصنيف الأمم المتّحدة غير بلد فقير انهارت عملته. يوجد خوفٌ حقيقيٌّ على اللبنانيّين الفقراء من الموت جوعاً.

لم يعُد لبنان يُقارَن بسوى سوريا، حيث حربٌ يشنّها النظام على شعبه منذ عشر سنوات، واليمن والصومال.


لعلّ أسوأ ما في جريمة رفيق الحريري، التي بدأت بإعادة الحياة إلى بيروت تمهيداً لإعادة الحياة إلى لبنان، أنّ اللبنانيّين صدّقوه. عاد كثيرون إلى البلد


تحوّل الانتقام من رفيق الحريري إلى انتقام من لبنان واللبنانيّين من كل المذاهب والطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعيّة.

تبيّن أنّه لم يكن كافياً تفجير الرجل. تبيّن أنّ المطلوب الذهاب إلى إفقار لبنان وتحويله إلى صحراء. صحراء في كلّ شيء، سياسيّاً واقتصاديّاً وفكريّاً وإنسانيّاً.

هل من قَحْلٍ أكثر من ذلك الذي كشفته طريقة تعاطي رئيس الجمهوريّة مع رئيس الوزراء المكلّف، وهي طريقة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها تعبير عن انفلات للغرائز البدائيّة.

لدينا رئيسٌ للجمهوريّة لم يأخذ علماً بعد بتفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس الماضي، ولا بالآثار التي ترتّبت على ذلك. يعتقد أنّ حقوق المسيحيّين تُستعاد عن طريق إلغاء موقع رئيس مجلس الوزراء الذي أعاد له رفيق الحريري هيبته.

هو رئيسٌ للجمهوريّة لا يريد معرفة أنّ صهره لم يستطع إعادة الكهرباء إلى البلد على الرغم من إشرافه المباشر وغير المباشر على وزارة الطاقة طوال 12 عاماً.

وهو رئيسٌ للجمهوريّة يرفض أخذ العلم بعزلة لبنان العربيّة والدوليّة!

ما يحصل حالياً على أرض الواقع يتمثّل في معاقبة لبنان واللبنانيّين قبل معاقبة رفيق الحريري على جريمته التي اقتصرت على تلاوة فعل إيمان بلبنان.

ليس ما يلخّص الوضع القائم أفضل من كلام وزير الخارجيّة الفرنسيّ جان إيف لودريان الذي يردّد أنّ “لبنان على وشك الانهيار”.

الواقع أنّ البلد انهار وليس على وشك الانهيار.

لم يعُد يوجد لبنانيّ يريد العودة إلى بلده. يوجد لبنانيّ يبحث عن مكان يستقبله خارج لبنان.

كلّما مرّ يوم يتأكّد أنّ إصرار “حزب الله” على أن يكون ميشال عون رئيساً للجمهوريّة قرارٌ مدروسٌ بدقّة ليس بعدها دقّة.

لم يجد الحزب في ميشال عون شخصاً لا يمكن أن يعترض على أيّ قرار من قراراته فحسب، بل عثر أيضاً على من يكره رفيق الحريري ويحقد عليه وعلى بيروت أكثر منه

المصدر أساس