المشكلة في الداخل، في القوى السياسية، والخارج يسعى إلى المساعدة، لئلا تكتمل كل عناصر الدولة الفاشلة، بل لئلا تنهار الدولة وتسقط نهائياً. هذا ما توصّل إليه، على التوالي، مفوّض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، فوزراء خارجية الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، وأخيراً البابا فرنسيس الذي حذّر من ترك لبنان لمصيره “تحت رحمة أولئك الذي يسعون بلا روادع ضمير إلى مصالحهم الخاصة”.
وقبل هؤلاء كانت زيارتا الرئيس الفرنسي ومداخلاته، كذلك بيانات المجموعة الدولية لدعم لبنان. أما الطرفان الخارجيان غير المهتمّين بمساعدة البلد فهما النظام الإيراني أولاً، بمساهمة من النظام السوري، إذ يولغان في تخريبه وإغراقه، تعجيزاً لكل من يريد إنقاذه وانتقاماً من الغرب والعرب المسؤولين في نظرهما عن مآزق طهران ودمشق وأزماتهما وأخطائهما.
لكن التشخيص بأن “المشكلة في الداخل” من دون تحديد واضح لعناصر التأزيم وإحباط الحلول، يعني أن القوى الخارجية باتت عاجزة عن التدخّل الفاعل لتحريك الأزمة.
فهي، من جهة، لا تريد الانغماس في المهاترات الطائفية على النحو الذي يخوضه “التيار العوني” ورئيسه ورئيس رئيسه.
كما أنها، من جهة أخرى، لا تريد التفاوض مع “حزب إيران” (أو “ما يسمّى حزب الله”، على قولة البطريرك الراحل نصرالله صفير) وقد غدا الطرف الوحيد المطلوب منه تنازلات أو مواقف “وطنية” للمساهمة في حلحلة الأزمة، ليس فقط في تشكيل الحكومة، بل الأهم في تمكين أي حكومة جديدة من العمل لإعادة لبنان إلى دائرة الاهتمام الدولي.
ومع أن فرنسا تتحاور مع هذا “الحزب” إلا أنها وسائر القوى الخارجية لا ترى صفة دستورية له بل تجد أنه صنع تسلّطه على الدولة، من خارج الدولة، بسلاحه غير الشرعي وسجلّه الاجرامي.
ثم إن الحوار معه، مباشرة أو بالواسطة، يُترجم عنده بمكاسب، كالاعتراف ولو غير معلن بـ “سلطته” وإضفاء “شرعية خارجية” على سلاحه، واستطراداً الاعتراف بالنفوذ والاستحواذ الإيرانيين على لبنان.
وفي هذه الحال لا يكون التحاور مجدياً طالما أن قرار “الحزب” ليس في لبنان بل في طهران، فحتى القول أن لدى زعيمه “تفويضاً” للتصرّف على الساحة اللبنانية لا يعني أن هذا الزعيم سيغلّب “وطنيته” على “إيرانيته”.
إذاً، فهل من الأفضل إمهال لبنان وأزمته إلى حين التفاوض الأميركي – الغربي مع إيران على “السياسات الإقليمية”.
تسعى طهران دائماً إلى مثل هذا التفاوض، لكن بشروطها وعلى قاعدة أن أتباعها وميليشياتها يجب أن يتسيّدوا الحكم بحكم سيطرتهم الفعلية، الإجرامية والإرهابية.
ومع التعثّرات التي يشهدها التفاوض النووي في فيينا، والتعقيدات المتراكمة في بؤر النفوذ الإيراني، لم يعد واضحاً ما إذا كان التفاوض على تلك “السياسات” سيحصل فعلاً. وحده لبنان لا يستطيع الانتظار، لأن أزمته مندفعة نحو الانهيار الشامل للبلد والدولة والمجتمع.
فهل أن هناك إمكانات حلحلة داخلية لهذه الأزمة، ما دامت “المشكلة في الداخل”. نظرياً، يجب أن تأتي الحلحلة من مؤسسات الحكم، تحديداً رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والحكومة.
واقعياً، كل هذه المؤسسات لم تعد فاعلة، بل أصبحت معطوبة ومعطّلة، وتعوّل جميعها على مؤسستي الجيش والأمن لتحميا عجزها وتغطّيا عفنها، لكن هاتين المؤسستين تتأثّران بالأزمة إلى حدّ يهدّد الدور الدستوري المطلوب منهما.
لا “ثورة 17 تشرين” حرّكت المتسلّطين على هذه المؤسسات، ولا المناشدات المعنوية للمرجعيات الدينية أثّرت فيهم، ولا النصائح والبيانات والضغوط والعقوبات الدولية صنعت أو يمكن أن تصنع فارقاً في مقاربة الأزمة داخلياً.
لماذا؟ لأن لهذا الاستعصاء مكمنَين: الأول في تسلّط “حزب إيران” على الرئاسة والمجلس والحكومة ومفاصل الدولة وفي الاختراقات التي نجح في تحقيقها بصفة كونه “من أهل البلد”، وهو كذلك لكنه أولاً وأخيراً، وبالتمام والكمال، في خدمة دولة أجنبية هي إيران.
والجناح الآخر في التحالف غير المقدّس بين هذا “الحزب” و”التيار العوني”.
استخدم “التيار” هذا التحالف لبناء احتكار مديد للرئاسة وزعامة المسيحيين والدفاع عن “حقوقهم”.
واستخدم “حزب إيران” هذا التحالف لتعزيز “مشروعيته” الداخلية، وبمصادرته قيادة “التيار” وإرادته استولى على رئاسة الجمهورية ومن خلالها على الدولة وقرارها وشرعيتها ومسؤوليتها عن السيادة وعن “حقوق” اللبنانيين جميعاً.
كذبٌ وخداعٌ ما يتردد بين حين وآخر من أن “الحزب” محرج أو مربك بممارسات حليفه، فهو على العكس مرتاحٌ إلى دور تخريبي يقوم به “التيار” بالنيابة عنه، ثم إن “الحزب” يملك الكثير مما قيّد به قادة “التيار” لمنعهم من فكّ التحالف.
كذبٌ وخداعٌ أيضاً ادّعاءات “التيار” ورئيسه بأنه في صدد مراجعة “وثيقة التفاهم”، فهذه ولدت واستمرّت مجرّد حبر على ورق، ومنذ لحظة التوقيع عليها كان مفهوماً أن مراميها الثلاثة غير مكتوبة:
1) تجنيد “التيار” في دعم السلاح غير الشرعي لـ “الحزب” وممارساته كافة بما فيها الاغتيالات ولاحقاً دعمه في قتاله داخل سوريا، وصولاً الآن إلى التسليم بسلطته المطلقة، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
2) تعهّد “الحزب” إيصال ميشال عون إلى الرئاسة ودعمه كزعيم أوحد للمسيحيين، بما يضمن “مبدئياً” توريث جبران باسيل.
3) التواطؤ على استغلال اغتيال رفيق الحريري لزعزعة “اتفاق الطائف” وإضعاف الطائفة السنّية للحؤول دون استعادة مكانتها في التوازن الميثاقي الوطني، بحيث تصبح تابعة و”تحت رحمة” الحليفين.
لا تشبه “وثيقة التفاهم” بين “الحزب” و”التيار العوني” ما سمّي “ربط نزاع” بين “تيار المستقبل” و”الحزب”.
أما النتيجة الملموسة حالياً لتحالف حسن نصرالله – عون/ باسيل، وبفعل الأزمة الشاملة، تُظهر أنه أضعف المسيحيين والمسلمين بطوائفهم ومذاهبهم كافة، ليحافظ على جهة وحيدة قوية هي “حزب إيران”.
ولا يستطيع هذا “الحزب” التخلّي عن “التيار العوني” مهما كثرت مآخذه عليه، لئلا يفقد الدعم المسيحي.
أما “التيار” فضعف داخلياً وخارجياً وخسر مسيحياً وتيقن بأنه أسير “الحزب” ودميته.