تفجير بيروت جريمة.. ليس إهمالاً ولا “تلحيم”

12 يوليو 2021
تفجير بيروت جريمة.. ليس إهمالاً ولا “تلحيم”
قاسم يوسف
قاسم يوسف

رُبّ حاجةٍ ساقت إلى أسوأ الضلالات. الحاجة هنا منوطة بتحقيق حدٍّ أدنى من الخرق المقبول والمتاح من جهة، شرط أن يكون قادراً على كسب شعبويّته المطلوبة من جهة أخرى.

أمّا صاحبها فهو مغلوب على أمره. لا قدرة لديه على تجاوز السقف الذي رسمه الجاني بحدّ مسدّسات تكتم الصوت، وبدم قطة مقطوعة الرأس.

حيث قال عبرها وبعدها لكلّ من يعنيهم الأمر: المرفأ انفجر نتيجة الإهمال. نقطة انتهى. هذه هي الحقيقة الوحيدة. وسقفك، أيّها المحقّق الكريم، أن تُحاسب المُهمِلين لا كبار المجرمين.

مَن دمّر بيروت يا سعادة المحقّق؟ مَن آتى بنترات الأمونيوم إلى مرفئنا؟ مَن نقلها إلى سوريا؟ مَن أشرف على تخزينها؟ مَن عكف على حمايتها؟ مَن استفاد منها؟ أين كانت الأجهزة الأمنيّة والاستخبارات العسكرية على مدى سنوات طوال؟ هذه هي الأسئلة التي يودّ اللبنانيّون الإجابة عنها، لا أن تبحث لهم عن كبش محرقة، أو عن قنبلة دخّانيّة مهمّتها التعمية السياسية والإعلامية عن القاتل الحقيقيّ وعن المجرمين الذين خطّطوا ونفّذوا وشاركوا في واحدة من أبشع الجرائم التي اُرتُكِبت على الإطلاق.


إذا كان لا بدّ لخيار الإهمال أن يسلك مساره، فالأصحّ والأوضح والأشمل والأكمل أن يبدأ بالجميع دفعة واحدة، من دون أيّ استثناء، من رئيس الجمهورية الذي اعترف بلسانه أنّه كان على علم بوجود النترات، إلى رؤساء الحكومات المتعاقبين، إلى جميع الوزراء المعنيين


مَن قتل جو بجّاني، ولماذا؟ مَن قتل لقمان سليم، ولماذا؟ مَن يسدّ كلّ باب يتّصل بالانفجار؟ ومَن هو ذاك الذي يُحرِّك مسدّسه الكاتم للصوت كلّما اقترب واحدنا من تأكيد المُعطى الجرميّ للتفجير؟ ولماذا علينا أن نُصدّق أنّ إهمال وزير، مثلاً، لبريد تتحدّث عن تعطّل سفينة تحمل موادّ خطرة منذ سنوات، هو المسؤول عن الكارثة الهائلة التي عصفت بعاصمتنا؟

لمصلحة مَن كلّ هذا العبث. مرّة يُستدعى رئيس الحكومة حسان دياب. ولا يستجيب. ثمّ يُغضّ النظر عن حضوره. ثمّ يُطلَب رفع الحصانات عن بعض النواب، ولا يستجيب المجلس النيابي. ثمّ يُعيَّن محقّق جديد، فيختار مجموعة مسؤولين يتعدّدون في مشاربهم، في صورة تعكس رغبة غير مباشرة بتنويع صورة الادّعاءات، بحيث تظهر وكأنّها تطول جُلّ الأطراف السياسية على طريقة الـ6 و6 مكرّر.

طبيعة هذه الممارسات، التي شهدناها على مدى عام كامل، تبعث على الريبة والقلق.

في البدايات برزت محاولات سياسية وإعلامية حثيثة لتحميل مسؤولية الانفجار إلى معلّم التلحيم.

تخيّلوا!


لمصلحة مَن كلّ هذا العبث. مرّة يُستدعى رئيس الحكومة حسان دياب. ولا يستجيب. ثمّ يُغضّ النظر عن حضوره. ثمّ يُطلَب رفع الحصانات عن بعض النواب، ولا يستجيب المجلس النيابي


لكنّ ردّة الفعل العنيفة حالت دون ذلك. ثمّ أخذت الأمور تتدرّج على نحو ما يشتهيه المشاهدون، وأقصر الطرق إلى ذلك هو الذهاب إلى المطالبة برفع الحصانات، مع العلم المسبق بأنّ هذا الأمر غير قابل للتنفيذ. ناهيك طبعاً عن بعض الثغرات القانونية التي أتاحت رفض الطلب سابقاً، وستتيح رفضه مجدّداً.

إذا كان لا بدّ لخيار الإهمال أن يسلك مساره، فالأصحّ والأوضح والأشمل والأكمل أن يبدأ بالجميع دفعة واحدة، من دون أيّ استثناء، من رئيس الجمهورية الذي اعترف بلسانه أنّه كان على علم بوجود النترات، إلى رؤساء الحكومات المتعاقبين، إلى جميع الوزراء المعنيين، بدءًا بالدفاع والعدل، إلى كلّ الأجهزة الأمنيّة والعسكرية والاستخبارية، وعلى رأسها قطعاً الجيش، وهو المسؤول الأوّل والأخير عن ملفّ بهذا الحجم وهذه الخطورة.

لا تجوز، تحت أيّة ذريعة من الذرائع، الاستنسابيّة في الادّعاء وفي الاتّهام حين يتعلّق الأمر بالمسؤولية الأخلاقية والمعنوية والوظيفية. ولا يجوز أيضاً القول إنّ دفعة جديدة ستصدر قريباً، وكأنّ المطلوب أن يرفض المجلس النيابي رفع الحصانات حتى يُقال إنّ الرفض أعاق إصدار الدفعات المتتالية، في لعبة مكشوفة ومفضوحة وشديدة الرتابة والوضوح.

نحن، وكلّ ذوي الضحايا والجرحى والمتضرّرين، نريد الحقيقة. الحقيقة الكاملة المجرّدة حول ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم. لكنّنا نزعم ونعتقد، بناء على كلّ ما شهدناه من الممارسات السابقة، أنّ ما يجري لا يعدو كونه محاولة لتطيير الحقيقة ونسفها ودفنها وإزهاق دمها بين القبائل.

لذلك كان لا بدّ أن نرفع الصوت، وأن نقول لسعادة المحقّق، المشهود له بحسن سيرته، إنّ هذا المسار سيدمّر الملفّ برمّته، وسيضيّع الحقيقة، وسيصل بك وبنا جميعاً إلى أسوأ الضلالات.

المصدر أساس