عامت النيترات فأغرقت “حزب الله”

10 أغسطس 2021
عامت النيترات فأغرقت “حزب الله”
 أنطوني جعجع
أنطوني جعجع

ليس سراً أن “حزب الله” لم يعد، بعد ذكرى الرابع من آب، ذاك اللغم الذي لا يجرؤ أحد على تفكيكه أو حتى الاقتراب منه، خشية أن يجد نفسه بين واحد من لقبين:  لقب الشهيد أو لقب العميل.

وليس سراً أن ما حدث في مرفأ بيروت قد عرى “المقاومة الإسلامية” من سلاح التعتيم والتجهيل الذي مارسه منذ العام ١٩٨٢ ونقله هذه المرة، سواء عن حق أو باطل،  من خانة المرتكب المجهول إلى خانة المرتكب المشبوه وربما لاحقاً إلى  خانة المرتكب المعلوم.

وليس في هذا المشهد أي  نوع من أنواع التجنّي أو الافتراء، خصوصاً أن ما شُحن إلى مرفأ بيروت، لا يمكن أن يجد له مكاناً آمناً لا يدنو منه أحد، إلا المكان الذي يخضع حصراً لسلطة “حزب الله” ويحظى بحماية لصيقة ومطلقة من حراسه  الموثوقين، أي  هذا المرفق  البحري الذي تحول إلى جسر عبور يمد النظامين الحاكمين في كل من دمشق وطهران بما  يمكنهما من الصمود في مواجهة المعارضة والمحور الإقليمي – الدولي  من جهة، والعقوبات الدولية من جهة ثانية.

وأكثر من ذلك، لا يمكن لأي مسؤول جمركي أو أمني أو استخباري أن يتغاضى عن مثل هذه الممنوعات الخطيرة والمحظورة، إلا إذا كان مقتنعاً بأن رأس نعامة مطموراً في الرمل يبقى أفضل من رأس معرض للقطع،  تماماً كما أصاب  بعضاً ممن همسوا سراً أو علناً بما يعرفونه عن ذاك العنبر، ولا يمكن أيضاً  لأي مسؤول سياسي أن يغض الطرف عن مثل هذا الزلزال الخفي إلا إذا كان واحداً من اثنين:

– مسؤول يعرف لمن شُحنت هذه المواد ولأي أهداف، ولا يجد أي  مشكلة في بقائها أو نقلها أو استخدامها ما دام من يفجرها  حليفاً ومن يتلقاها عدواً مشتركاً، وهذا ينطبق على حلفاء سوريا و”حزب الله” من نواب ووزراء وأمنيين، ومنهم علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس وعباس ابراهيم الذي كان أول من أعلن أن انفجار المرفأ ناتج عن مئات الأطنان من المتفجرات.

– مسؤول يعرف من شحنها ومن يحميها وما هي محتوياتها ومن يستخدمها لكنه لا يجرؤ على التدخل انطلاقاً من النظرية القائلة: “ابتعد  عن الشر وغنيلو”  وهذا ينطبق على الرئيسين ميشال عون وحسان دياب وجان قهوجي .

ويجمع القسم الأكبر من المراقبين على أن هذه الكمية الضخمة من المتفجرات، لا يمكن أن تحط في مرفأ بيروت،  أو أن تخزن في أحد عنابره، أو أن تنقل منه  ليلاً أو نهاراً، من دون دراية من أحد، سواء كان مسؤولاً على الأرض أو في السلطة،  مؤكدين أنهما ينقسمان إلى فريقين أحدهما يمثل فريقاً خائفاً وآخر يمثل فريقا متواطئا.

ويضيف هؤلاء المراقبون أن الأميركيين والإسرائيليين كانوا يعلمون بما يحتويه العنبر ١٢، لكن الأمر لم يكن يستأهل التدخل العسكري ما دامت النيترات تستخدم في سوريا في مواجهة أعداء مشتركين، من أمثال “داعش” و”النصرة” ومجموعات أخرى من التكفيريين والأصوليين الوافدين من دول عربية وأجنبية، وما دامت نيرانها  تزيد من عمر الحرب وتسهم في تحويل سوريا إلى مقبرة جماعية أو محرقة شاملة،  فالتزموا شعار: “انتظرْ ترَ”.

ومع تراجع المعارك في سوريا لمصلحة الرئيس بشار الأسد، واكتشاف كميات من مادة النيترات في عدد من العواصم الأوروبية، تحرك ملف العنبر ١٢ مجدداً لكن في مسار مختلف. إذ تقول بعض المعلومات إن مسؤولاً استخبارياً اميركياً نقل إلى الرئيس عون عبر احد مستشاريه،  ضرورة العمل للتخلص من محتويات العنبر المذكور محذراً من أن إسرائيل قد تضطر إلى نسفه عن آخره، مشيراً إلى أن هذا التحذير نقل إلى الرئيس حسان دياب أيضاً.

وتضيف المعلومات، أن عون أجرى عدة اتصالات ليتبين له أن النيترات تعود للمحور السوري- الإيراني فتكتم على الأمر ولم يبلغ أحداً، في حين قرر دياب التوجه إلى المرفأ لاستطلاع الأمر قبل أن يتلقى اتصالاً من مجهول ينصحه  بنسيان الأمر.

من هو هذا المجهول؟ سؤال يعيدنا إلى الرابع عشر من شباط عندما تلقى وزير الداخلية آنذاك سليمان فرنجية اتصالاً من مجهول  يطلب منه الإسراع في طمر الحفرة التي أحدثها الانفجار الذى أودى بالرئيس رفيق الحريري.

وتذهب المعلومات بعيداً إلى حد القول إن كثرة الوشوشات التي انطلقت في شأن العنبر المشبوه ، دفعت المسؤولين عنه إلى التفكير جدياً في التخلص منه خصوصاً بعد انتفاء الحاجة إليه، فكان القرار: لا بد من حرقه. وهنا لا  يمكن الجزم  بأن الجاني كان يجهل أو يعلم بوجود كل ما يكفي لتفجير النيترات،  على الرغم من أن التحقيق يميل إلى شعار “لو كنت أعلم”.

والواقع أن  عرابي العنبر  كانوا يخشون أن تقدم إسرائيل على نسفه، في شكل يؤدي إلى أمرين أحلاهما مر: الاضطرار إلى الرد  بعذر أقبح من ذنب، إذ  لا يمكن الدفاع عن  مواد  أقرب إلى السلاح النووي، مخزنة في منطقة مدنية ووسط عشرات الآلاف من السكان المدنيبن، ولا يمكن أن يبرروا  لأنفسهم استخدام هذه المواد المحظورة عالمياً والمحصورة  بالجيوش النظامية وليس بالميليشيات أو المنظمات الإرهابية.

ولعل هذا الأمر يبرر  الصمت الذي التزمه “حزب الله” بعيد المجزرة،  ثم اصرار حسن نصرالله على الإسراع بختم التحقيقات ومنح تعويضات سريعة لأهل الضحايا والمتضررين، مرفقاً ذلك بحملة تحذيرات مبطنة لكل من تولى أو يتولى أعمال التحقيق، خصوصاً عندما يقترب في تحرياته إلى الحلقة التي تدور حول محور الممانعة.

ولا شك أن حسن نصرالله يدرك هذه المرة أن ما جرى في المرفأ أخطر مما يمكن أن يتحاشاه أو يتجاهله، وأن كل طرق الاتهام  تقود إلى المحور الذي يتولاه عملياً سواء في بيروت أو دمشق أو غزة أو بغداد أو صنعاء، مدركاً في قرارة نفسه أنه يواجه شعباً جريحاً هو الشعب المسيحي، وشعباً محرجاً ومشككاً هو الشعب المسلم، ومجتمعاً عربياً – دولياً يتربص به ويتخذ من  تفجير المرفأ الشماعة التي يستطيع بها توجيه السهام إلى قلب “حزب الله” وتحميله كل الأسباب التي جعلت لبنان رهينة لسلاحه ومشروعه العقائدي  وامتداداته الأمنية من الشرق إلى أوروبا وأفريقيا والأميركيتين.

والواقع أن ذكرى الرابع من آب قد أصابت مقتلاً في حسابات الممانعين  الذين اعتقدوا أن الأمر يقتصر على حفنة من أهل الضحايا،  ووجدوا أنفسهم في زاوية محلية – دولية لا يمكن الخروج منها سالمين أو ابرياء…  فبالنسبة إلى الشعب،  إن ما أصابهم لم يكن حرباً مع إسرائيل لتحرير شبعا ولم يكن حرباً مع داعش على الأرض اللبنانية، لقد كان مجزرة  محلية بأيد محلية تابعة لجهة تدعي حماية العباد والبلاد، ومحاولة لنفض اليدين من جهة وكم الأفواه من جهة ثانية، وقتل الشهود من جهة ثالثة، وتحوير التحقيق من جهة رابعة، وترهيب القضاة من جهة خامسة،  وتحريك الأرض من جهة سادسة.

وأكثر من ذلك يدرك نصرالله أن  الذين زحفوا نحو المرفأ كانوا في غالبيتهم العظمى من المسيحيين غير الموالين لحليفه التيار الوطني الحر، ما يعني أن الغطاء المسيحي الذي كان يتسلح به قد بات في مكان آخر، وذلك بالتزامن مع  نقمة سنية تجلت في خلدة، وتبعتها نقمة درزية تجلت في شويا وعاليه.

وليس من قبيل المصادفة أن يطل حسن نصرالله بعد جولة الراجمات جنوباً، ليتهم القاضي طارق البيطار باتباع استنسابية سياسبة في تحقيقاته وهو ما فعله أيضاً مع  سلفه فادي صوان، وأن يدافع عن نواب العريضة لشد عزيمتهم، وأن يوجه أصابع الاتهام في غير اتجاه،  تماما كما حاول الصاق جريمة ١٤ شباط باسرائيل، محاولاً بذلك تخيير الفريقين أي  الشعب والبيطار، بين  جرّ البلاد إلى حرب تندلع على أساس “عليّ وعلى أعدائي” أو التوصل إلى قرار ظني مائع يشبه إلى حد بعيد احكام المحكمة الدولية في قضية الرئيس الحريري، بحيث تقع التهمة على “معلم تلحيم غبي”، تماما كما حدث مع مقتل الطيار سامر حنا على يد “مسلح متهور”.

وهنا لا بد من سؤال أخير: هل أدرك حزب الله وسوريا أن النيترات العائمة أغرقتها معاً وأنهما وصلا بالتوازي مع إيران،  إلى طريق مسدود لا يحتمل أي  تنازلات قاسية أو مجانية  وبات عليهم الاختيار بين قرارين: إما الحرب وإما  الحرب…؟

المصدر لبنان الكبير