لا بد من تصادم فائضين سلطويين ولو حليفين، طالما أنهما يخوضان في حيز واحد، سياسي واجتماعي واقتصادي، إذ تتوالد على هوامش التعاطي اليومي لتحقيق أهداف متفق عليها بينهما نقاط فراغ تكبر مع الوقت لتباعد بينهما أولاً ثم لتوقع بينهما.
ما نراه اليوم هو المسار الطبيعي لـ”فائض القوة” و”فائض شهوة السلطة” وقد أنهيا متطلبات “التفاهم”، فوصل الفائض الأول من القوة الى ما يتجاوز السلطة كممارسة عبر مؤسسات الدولة، ووصل الفائض الثاني إلى إشباع شهوته للسلطة منتقماً من الدستور والطائف ومعيداً صياغة المؤسسات وفقاً لتركيبة عائلية.
هنا فائض ما عاد يرتاح للمؤسسات اذ تأكل من قوته، وفائض استحكم بالمؤسسات وامتطاها لمراكمة المزيد من القوة… فوقع الصدام.
لا شك في أن “فائض القوة” أفاد كثيرا “فائض شهوة السلطة” بقدر ما استفاد هو أيضا من “التفاهم” الذي رسم سياسات عهود عدة حتى أوصلنا الى “عهد الخراب” الحالي بقيادة الجنرال ميشال عون.
تفاهم سياسي بمدى سلطوي، على أرضية طائفية مذهبية، لا يمكن أن يتأسس على اعتبارات مبدئية غالبة، طالما كل طرف محكوم بشبكة مصالح مفتوحة على حسابات قد تكبر الى حد الخيار المصيري وقد تصغر الى حد الحساسيات الزواريبية.
هذا التفاهم الذي ولد في كنيسة مار مخايل على التماس الجنوبي بين الشياح وعين الرمانة، حيث امتدت الحرب الأهلية “عا هدير البوسطة”، يبدو ان دفنه جارٍ في الطيونة، على التماس الشمالي بين الشياح وعين الرمانة مع تقدير أولي بأن الرصاص المتطاير هناك أشبه بموسيقى تصويرية لحلقة في المسلسل اللبناني الطويل.
والتماس الميداني هنا هو واجهة لاشتباك سياسي في توقيت حساس جداً، للمشاركين في الاشتباك الناري وللمشاهدين، للحكومة الجديدة التي خسرت كل الرهانات عليها بسرعة فائقة، وللقوى السياسية التي كانت تقوم بالتحمية اللازمة استعداداً للانتخابات البرلمانية، بعد أشهر قليلة.
أزيز الرصاص وانفجار القذائف الصاروخية أشبه بصدى لزلزال 4 آب 2020، الذي أحدث صدوعاً كبيرة على مستويات عدة في الدولة والأحزاب وقوى المجتمع المدني، مع توجيه التحقيق في تفجير المرفأ ليصبح تصفية حساب مسيحية – إسلامية وكأن “الطرف المسيحي”، بطرفيه التيار والقوات، مع القاضي، و”الطرف المسلم” بطرفيه الشيعي بثنائيته والسني بتعدده، هو المدعى عليه.
لا شكّ في أن حدثاً مثل تفجير المرفأ يحتمل وجود قطب مخفية كثيرة، ويبدو ان واحدة من هذه القطب اختبرت طاقة صاحب فائض القوة المعتادة على التحرك خلف المؤسسات لتحقيق رغباته، فرأيناه هذه المرة يتصرف عارياً متحدياً هذه المؤسسات مصطدماً بها وبمن وراءها ولو كان حليفه العوني.
واضح أن “حزب الله” خرج عن طوره مؤخراً، فاختلفت ممارسته وبدا مكشوفا، في مواجهة كان يفترض ان تكون ضد تسييس التحقيق من القاضي طارق البيطار للمطالبة بإزاحته، فأصبحت ضد المؤسسة القضائية بل ضد السلطة بكاملها على الرغم من انه لعب الدور الأبرز في إعادة صياغة السلطة لمصلحة حليفه البرتقالي.
وإذ أصبحت المعادلة: يا أسود يا أبيض، ما عاد البرتقالي يشكل أولوية في العين السياسية لـ”حزب الله” وكان لا بد من تحرك خارج كل الأطر السلطوية والنزول الى الشارع.
وشارع يوصل الى ذاكرة الحرب الأهلية لا يمكن الا أن يحرك شارعاً مقابلاً في هذه الذاكرة. في هذه الحالة يخسر “فائض القوة” الكثير من هيبته، ويخسر “فائض شهوة السلطة” هامش “المكابرة”… السؤال هنا: هل يربح “القناص” في الشارع المقابل؟!