وصف محمود درويش الانقسام الفلسطيني بعبارة فيها من العبقرية ما هو حقيقي واستشرافي: “منذ الآن أنت غيرك”. فعلاً، بعد حزيران 2007، تغيّرت الشخصية الفلسطينية حتى تدهورت سماتها وتحطمت قيمها الاجتماعية لتظهر وسائل التواصل الاجتماعي التعصب الحزبي وكل الانهيار الأخلاقي.
يشتبك المتعصبون بأقبح الأوصاف. أضحت التغريدات التويترية اتهامات توتيرية وتخوينية. وللأسف أن الحملات المنظمة والعشوائية يشنّها أبناء شهداء وأسرى ضد الطرف الآخر. هل هذا الخطاب يوصل إلى مكان غير الشرذمة والاقصاء والتمهيد للقتل؟
صحيح أن الانقسام شكّل نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، وصلت ذروتها إلى انفصال سياسي وجغرافي ما بين غزة والضفة الغربية، إلا أن الآثار الاجتماعية كانت الكارثة الكبرى. ومعروف أن تداعيات الانقسام أرخت ظلالها على الواقع الفلسطيني في علاقاته العربية والدولية، وبواقع الحريات والديموقراطية داخل النظام السياسي.
ويؤكد الباحث عبد الرحمن خالد الجبور، في دراسة بعنوان “تأثير الانقسام السياسي الداخلي على بنية المجتمع الفلسطيني”، أنه “إلى جانب ما خلّفه الانقسام من آثارٍ اقتصادية واجتماعية أضرّت بالبنية التحتية للمجتمع، من حيث ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع معدلات النمو، وانتشار الآفات الاجتماعية الخطيرة على النسيج المجتمعي مثل الهجرة والجريمة والانتحار والتعصب الحزبي، بالإضافة إلى التغوّل على الحريات العامة، وكل ما ترتّب على ذلك من انحدار للقيم، طالت الكثير من تقاليد المجتمع وصميم العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة والعائلة الممتدة وصولاً إلى كامل بنية المجتمع الفلسطيني في غزة”.
لعبت السياسة في النسيج الفلسطيني، ففي كل بيت اختلاف في التوجهات السياسية. فتجد الأب “فتحاوياً” أما الابن “حمساوياً” والخال “جبهاوياً” والعم “جهادياً”، وللأسف انقسمت الأسر. وهنا لا بد من تعريف الانقسام: هو صراع سياسي على السلطة.
وبالتالي انقسام على أساس مصلحة حزبية لا وطنية، وللانقسام دور سلبي كبير تسبب في حدوث مشكلات عائلية بين الأخوة وأبناء العم والأقارب، كما أضرّ بالعلاقات الاجتماعية بين الأصدقاء وبين الطلبة في المدراس والجامعات.
ولأن الوقت كفيل في ترميم العلاقات، حدث تقارب مجتمعي وعادت المياه الى مجاريها لا سيما داخل غزة، إلا أنه بعد معركة “سيف القدس” في أيار الماضي، عاد الخطاب الحاد وشدّ العصب الحزبي بدلاً من الخطاب الوطني الوحدوي.
دمّر الانقسام قيم التسامح وقبول الآخر، فحالة الاستقطاب الحزبي تستخدم عناوين فيها تكفير سياسي وتخوين أخلاقي.
ولذلك ضعف الفلسطينيون بعد تشويه صورتهم بيدهم. فكم من عربي قال لفلسطيني: “تقتلون بعضكم بدلا من قتل الإسرائيلي” أو “توحدوا ومن ثم تكلموا” أو.. الخ. وحينها يبهت الفلسطيني ويصمت لأنه لا يعرف كيف يرد.
ما يحصل على المنصات الافتراضية بين الشارعين الفلسطينيين يعمّق الفجوة بين طرفين ويبدو أننا أصبحنا شعبين ولسنا شعباً واحد. ويمكن ما يجري اختصاره ببيت شعري لدرويش:
“تمرَّدْ ما استطعت عليَّ، واركُضْ.. فليس وراءنا إلاَّ الوراءُ!”.