زلزال انسحاب الرئيس الحريري وعائلته وتيار المستقبل ومناصريه من الحياة السياسية اللبنانية لن يمر مرور الكرام، وسوف تصيب ارتداداته الزعامات اللبنانية كلها كما ستؤثر في مناطق عربية قريبة وبعيدة. وأولى الاصابات ستلحق بـ”حزب الله” الذي كان يستند في الكثير من الاحيان الى زعامة الحريري الابن الحريص على تفادي نزاعات طائفية كما كان نهج ابيه الراحل. ويذكر الجميع كيف ان رفيق الحريري انصرف الى بناء ما هدمته الحرب الأهلية تاركاً لـ”حزب الله” مهمة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، كما غض الطرف عن استفراد هذا الحزب بـ”المقاومة” وتهميش أو طرد سائر المقاومين. كانت الامور مقبولة، وإن على مضض، من سائر اللبنانيين ومن العرب، لكنها انقلبت تماماً حين انسحبت اسرائيل وانصرف “حزب الله” الى أدوار تتجاوز لبنان الى مناطق عربية، من سوريا وصولاً الى اليمن، حتى بدا مؤثراً في مجال اقليمي واسع يتجاوز ما اعتاد اللبنانيون، ويخدم بالدرجة الاولى راعيه الايراني وجماعات الاخوان المسلمين.
انسحاب الحريري يشكل تحدياً محرجاً لـ”حزب الله” لا يُعرف كيف سيواجهه، فلم يبق لـ”الحزب” من درع محلي يقيه الاخطار المحدقة بلبنان كله حيث شعب شبه جائع وحيث يحل غضب العرب بدلا من صداقتهم ومساعدتهم، وحيث لا تستطيع دمشق تقديم العون لأنها تحتاج من يعينها.
وستصيب ارتدادات زلزال انسحاب الحريري الزعامات اللبنانية كلها، الصديقة له وغير الصديقة، فمنذ أكثر من ثلاثين سنة تتحكم زعامات الطوائف بطوائفها وتمنع بروز قيادات جديدة. ولئلا نقع في التعميم لا بد من استثناء المسيحيين الذين تتحرك نخبهم المستقلة بحرية ملحوظة، كما تتوزع قياداتهم السياسية بين “القوات” و”العونيين” وسليمان فرنجية وشخصيات اخرى. أما سائر الطوائف فتقع تحت وطأة زعامات محددة وتلجأ نخبها المستقلة الى الصمت أو الى الهجرة، كما نرى لدى السنة بقيادة الحريري، ولدى الشيعة بقيادة الثنائي السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري، ولدى الموحدين الدروز بقيادة الوزير وليد جنبلاط. ومعظم هذه الزعامات يلجأ الى اهمال النخب وابعادها حتى عن مناقشة سلوكه السياسي والاقتصادي واختياراته الفكرية. وقد أدى ذلك الى تجفيف الاجيال اللاحقة وخلق فراغ قاتل، إذ يتعذر الى حد بعيد ايجاد بدلاء وخلفاء للزعامات التي شاخت أو تكاد. وتبدو الصورة نافرة لدى الشيعة الذين يجري تغييب مثقفيهم ورجال أعمالهم عن الوزارة والنيابة والوظيفة العامة ويحتل هذه المراكز أعوان يرددون رأي الزعيم ببغائية مضحكة حيناً ومبكية ومؤسفة في أحيان كثيرة.
وفي حين يتوقع الكثيرون سلوك الزعامات الطائفية الباقية طريق الحريري الابن أو سقوطها، يبدو هذا الرأي متسرعاً، حتى في نظر خصوم الزعماء، لأن غياب البديل سيغرق المجتمع في فوضى لا حدود لها، خصوصاً لأنه اعتاد الولاء الأعمى بعيداً من عيش الحرية، وصار يشكّك بالأفكار المفتوحة ولا يحتمل الرأي الآخر مهما كان. فكيف للذي يوالي زعيمه ثلاثين سنة بلا مساءلة ان يرتضي رأياً مخالفاً أو حتى يقبل بالاستماع اليه؟
هذه الخريطة السياسية اللبنانية الممزقة تجذب صراعات اقليمية ودولية لا يتحملها هذا الوطن الصغير. كانت صراعات طوائفه بريئةً تدور حول المصالح الصغيرة فصارت الطوائف أشبه بوكالات حصرية لجهات خارجية محددة، أو أشبه بقوى للتأجير في ساحة لبنان العربية الاقليمية الدولية. ونحن الآن في مرحلة صعبة إذ يطلب العرب من لبنان، ممثلاً بزعمائه، أن لا يكون مقراً لنشاط من يحاربونهم في غير مكان من ديارهم. وهنا نَصح من تبقى من انصار الوطن الصغير بإبعاد لبنان، على الاقل، عن الهجمة الايرانية الراغبة بالهيمنة على جيرانها العرب باسم الاسلام السياسي أو باسم الصراع العربي – الاسرائيلي أو باسم محاربة الغرب الاميركي والاوروبي. وفي هذه المرحلة الصعبة، هناك تراجع واضح في أداء مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية والقضائية، وشروخ عميقة في اختيارات الجماعات اللبنانية بين كثرة تريد افضل العلاقات مع العرب واوروبا واميركا وقلة تريد الانتماء الى محور ايراني يعجز عن حل مشاكله الداخلية فضلاً عن علاقاته بالعالم.
هذا المجتمع اللبناني المشروخ بقادته الذين يفقدون احترام مواطنيهم والرأي العام العالمي، كيف يتفادى وعود الحطام؟
حفظ الله لبنان وأرجع العقل الى اللبنانيين.