سنوات طويلة مرت، سمع فيها اللبنانيون ألوفاً مؤلفة من الوعود الطنانة والرنانة حتى خُيّل اليهم أنهم سينتقلون للعيش في الجنة، ويتحولون الى شعب بلا هم ولا غم ، لكن النتيجة لم تأت مغايرة أو منقوصة وحسب، انما معكوسة بدقة لا تقبل الشك: شعب يقبع في آخر طبقة من جهنم، مهموم، محبط، جائع، خائف حتى أن التقارير الدولية وصفته بالأتعس على الكرة الأرضية.
سنوات طويلة وحفلات الجنون تتنقل من استحقاق الى آخر، ومن قضية الى أخرى، وحفلة الانتخابات النيابية الأخيرة كانت الأبرز والأكثر تشويقاً وحماوة لما تضمنته من خطابات وشعارات فضفاضة أطلقها المرشحون في سماء 15 دائرة انتخابية وشملت كل أنواع التخوين والطائفية والمذهبية لشد العصب الجماهيري، ودوزنوها على ايقاع الوعود حتى غرق الشعب في بحر من المن والسلوى.
لا شك أنه بعد 20 يوماً على الانتخابات، لا يجوز إخضاع النواب للمساءلة لأنهم دخلوا القصر “مبارح العصر”، كما أن الانتخابات الداخلية لمجلس النواب الجديد لم تنته بعد، ولكن اللبنانيين بدأوا بالتعبير عن تخوفهم وتوجسهم من “عودة حليمة لعادتها القديمة” لأن التجارب السابقة أثبتت فشلها الذريع خصوصاً بعدما لمسوا أن الذهنية في التعاطي لا تزال هي هي، كما أن التشتت في الكتل وشظايا الاختلاف بينها تشكل خطراً كبيراً على الوعود والتغيير وكل أخواتها.
ولعل الهواجس من الالزهايمر الذي يصيب النواب ويطيح بوعودهم، دفعت بالبطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي الى دعوة الكتل النيابية “لترجمة المواقف الانتخابية بالمواقف العملية في مواجهة المنعطفات المصيرية، وأن يترجموا شعاراتهم والبرامج التي وعدوا بها أثناء حملاتهم الانتخابيّة، فالشعب سئم المواقفَ المتقلّبة والمتردّدة والغامضة والضبابيّة”، مؤكداً أن “لا التغيير شعار ولا السيادة أنشودة، بل مواقف شجاعة ووطنية وصامدة تنقل الوطن من واقع الأزمة إلى واقع الحل”.
وانطلاقاً من كلام البطريرك الراعي، ومن الحذر الذي يعبّر عنه الجميع من قدرة النواب الجدد على وضع البلد على سكة التغيير لأن الكل على يقين بأن لا أحد يملك عصا سحرية في بلد تتزاحم فيه التعقيدات والصفقات والمساومات والمحاصصة، يبقى السؤال: هل ينجح المجلس الجديد في أن يخطو خطوة في رحلة الألف ميل؟
لفت رئيس تحرير موقع “الكلمة أونلاين” سيمون أبو فاضل الى أن “عدم التنسيق بين الأكثرية الجديدة، يدعو الى الخوف من ثغرات كما حصل في انتخاب رئيس مجلس النواب، ولكي لا تحصل الأخطاء، من المفترض أن يحصل التنسيق الذي لا أرى أنه سيكون موحداً، لكن التباين لا يمنع تشكيل قاسم مشترك حول بعض المواضيع مثل التحقيق في انفجار المرفأ وقضية الودائع”.
ورأى أن “هناك تبايناً في موضوع سلاح حزب الله، ولكن تحت شعار استعادة الدولة، يتلاقون. هناك تناقضات في المسيرة، وفي حال سقط حلم التغيير يكون نتيجة النظام القائم الذي يجب أن يعرفوا كيف يتعاطون معه”.
وشدد على أنه “لا يمكن أن نحكم على النواب الجدد قبل أن نرى الأداء، وهم يواجهون سلطة متمرسة، ولا يجوز أن نحمّلهم مسؤولية ما يحصل، وعليهم الآن القيام بمعالجات اجتماعية”، مشيراً الى أن “البطريرك الراعي لم يكن مرتاحاً الى عدم التنسيق بين النواب التغييريين والأحزاب المعارضة لأنه يراهن على التغيير، فكان لا بد من رفع الصوت كي لا يتم التلكؤ وتتراجع الآمال”.
من جهته، أوضح مدير “المركز اللبناني للأبحاث والاستشارات” حسان قطب أن “دور النائب تشريعي ومحاسبة السلطة التنفيذية لكن ما نلاحظه أنه يتم التعامل مع النائب على أنه صاحب خدمات، وبعض النواب يصل الى المجلس ولا يعرف طبيعة مهامه، لذلك نرى أن النائب لا يمثل أمة أو وطناً انما يمثل بيئة أو مجموعة”.
وقال: “المرشحون وعدوا في خطاباتهم بالكثير، لكن السؤال هنا: ما هو هامش القدرة على الحراك داخل المجلس مع طريقة الأداء التي رأيناها في الجلسة الانتخابية؟”.
واعتبر أن “كلام البطريرك في مكانه اذ من المفروض أن توضع هذه الوعود ضمن خطة مرحلية لتحقيقها تدريجاً كالموضوع السيادي والدور التشريعي ومتابعة السلطة التنفيذية والعدالة وأموال المودعين، كلها عناوين طرحت في الحملات الانتخابية، وتنفيذها يتم من خلال اطار قانوني وليس شعارات فقط، بمعنى تأطير الأفكار ضمن خطط مرحلية للتنفيذ لأنه ليست لدينا الخطط انما العناوين”.
واعتبر أن “هناك منظومة حاكمة يقودها حزب الله الذي يدرك أننا في حالة تراجع وانهيار بسبب سياساته الداخلية والخارجية التي عزلت لبنان عن محيطه العربي والدولي.
البلد رهينة سياسات الحزب، وهو من خلال سياسته يقول للمجتمع الدولي ان لا تغيير في الداخل اللبناني انما كل ما نحتاجه هو الدعم المالي لمنع الانهيار والحفاظ على الوضع السياسي كما هو عليه الآن.
أما بالنسبة الى النواب الجدد، فلا يمكنهم القيام بأي شيء لأنهم لا يملكون السلاح”.
أضاف: “الحزب يريد إبقاء الوضع على ما هو عليه مع دعم مالي، والهيمنة على الوضع السياسي، وبالتالي هناك عدم قدرة على التغيير في حال كانت هناك النية لدى البعض لأن المطلوب أن يبقى لبنان ساحة صراع لمصلحة ايران في المنطقة لضمان أمنها وليس أمن لبنان”.