بَنَت الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، شبكة واسعة من الحلفاء من بين الدول حول العالم. واستطاعت أن تصل إلى هذه الشبكة من خلال مجموعة واسعة من العوامل، أهمها المكان الجغرافي للقارة، الذي أبقى الولايات المتحدة بعيدة عن مركز الحروب في القارة الأوروبية، وهو ما أسهم في ازدهارها سريعا وبعيدا عن الأزمات.
حجم الولايات المتحدة الجغرافي وثرواتها الطبيعية ورصيدها الديمغرافي التي راكمته على مدى سنوات، لا يقلّ أهمية أيضا، إذ استطاعت واشنطن من خلال هذا كلّه، أن تستقطب جميع الأدمغة والفُرص وتؤسّس من خلال ذلك أولى خطوات الهيمنة على العالم.
ومع تطوّر هذا الدور الرائد للولايات المتحدة اقتصاديا وسياسيا، أسّست واشنطن لما بات يُسمى اليوم بـ”العولمة” التي تحوّلت إلى “ثقافة مهيمِنة”، ثم إلى نمط حياة عالمي إلزامي، تحوّل بدوره ومع الوقت لأن يكون جزءًا من الحضارة العالمية، تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب.
كل هذا أنتج ثقافة شبه عالمية هي ثقافة الولايات المتحدة، أو ما بات يُعرف بـ(The American way of life). هذه الثقافة بدأت تغزو العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي تباعا. غزته في المأكل والمشرب والملبس، وخصوصا في النمط الاستهلاكي للسلع والإلكترونيات والهواتف ووسائط الاتصال وخلافه.
ثم ما لبث هذا النمط أن تطوّر لاحقا، وانتشر وتوسّع أفقيا ورأسيا، حتى طال جميع مستويات المجتمع ومؤسسات الدولة وقطاعاتها. النهج الأميركي بات اليوم أسلوبا لإدارة الدولة، بدءا بالديمقراطية ومرورا بالسياسات الاقتصادية وإدارة أجهزة الدولة ومؤسسات القطاع الخاص والمصارف ومراقبة الأموال والأصول ومكافحة ما تصنّفه واشنطن إرهابا وغير إرهاب… ووصولاً إلى فضّ الأزمات ثم المؤسسات العالمية وصناديق المساعدة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية… واللائحة تطول وتطول.
وأوصلنا حجم التبادل التجاري وشبكة المصالح الواسعة مع الولايات المتحدة، ويضاف إليهما سطوة واشنطن في مجال تكنولوجيا المعلومات والإنترنت وعملة “الدولار” -الذي كان وما زال إلى حدّ بعيد سلاحا فتاكا في تطويع دول العالم قاطبة- إلى أن تتربع الولايات المتحدة بالقوة والإكراه في الكثير من الأوقات، على زعامة العالم.
كما أنّ هذا النمط فرض ما يشبه “الوصفة” الطبية الموحّدة التي تسري على جميع الدول “المريضة” إن صحّ التوصيف! لكن برغم ذلك، لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، فقد استطاعت الولايات المتحدة نتيجة تغلغلها في خصوصيات الدول وتركيبتها الاجتماعية الإثنية والثقافية، أن تنسج شبكة واسعة مع خصوم هؤلاء الحلفاء أنفسهم.
وجدت الولايات المتحدة في هؤلاء الخصوم فرصة لتطويع الحلفاء، أو لحضّهم بالإكراه على المزيد من الإذعان والخضوع، فجعلت في كل دولة ولكلّ نظام حليف حول العالم “جهة رديفة”، أو “طرفا مقابلا”، أو “عدوّا مفترضا” ينتظر دوره لأن يكون شريكا أو حليفا، إذا دقت الساعة. هذا الطرف يمثل “العصا” التي تهدد واشنطن بها الحلفاء، خصوصا إذا لم ينصاعوا لإرادتها، فتخيّرهم عند الحاجة بين “العصا والجزرة”.
الأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وآخرها الحرب الدائرة اليوم بين روسيا وأوكرانيا على الأراضي الأوكرانية. هذه الحرب هي نتيجة تعنّت كييف وحضّ واشنطن لها على الانضمام إلى حلف شمالي الأطلسي (الناتو). واشنطن تحضّ أوكرانيا لأهداف تتعلق بمحاولة تقويض روسيا وإخراجها من دائرة مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية، وبالتالي فرض سيطرتها على سوق الطاقة العالمي.
بعد أن فشلت واشنطن بتحقيق هذا الهدف عسكريا، فرضت على روسيا عقوبات اقتصادية ومالية، وهذه العقوبات بدورها لم تأتِ بالنتائج المرجوة (أقله حتى الآن)، فأجبرت حلفاءها من الدول الأوروبية وغير الأوروبية على فرض عقوبات ضد روسيا في مجال النفط والغاز، وحينما عجزت هذه الإستراتيجية أيضا، استعانت واشنطن بمن كانت تعتبرهم حتى الأمس القريب، “أعداء” وتصنفهم من ضمن “محور الشر”، وكل ذلك من أجل زيادة إنتاج النفط وخفض أسعاره.
إيران من بين هذه الدول، التي ستسمح لها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بتدفّق نفطها الخاضع للعقوبات إلى الأسواق العالمية، وذلك حتى قبل إحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وخصوصا في حال هيمنت الحاجة إلى خفض أسعار البنزين على الانتخابات النصفية الأميركية المقررة نهاية هذا العام.
ومن بينها أيضا فنزويلا، حيث ستبدأ شركات نفطية بنقل نفطها الخاضع للعقوبات الأميركية إلى أوروبا مطلع الشهر المقبل، وذلك من أجل التعويض عن النفط الروسي وخفض الاعتماد عليه، وبعد حصول هذه الشركات على “ضوء أخضر” من وزارة الخارجية الأميركية، لاستئناف الشحنات المتوقفة منذ نحو سنتين.
لقد استطاعت الولايات المتحدة من السيطرة على الكثير من دول العالم من خلال هذه السياسات، وكذلك من خلال مجموعة من مؤسسات دولية باتت تهيمن على آليات اتخاذ القرار فيها. ومن خلال مؤسسات علمية وعلمانية وحتى دينية وعبر برامج “خيرية” اخترقت بواسطتها الكثير من الدول، وخصوصا تلك الأقل نموا، فتمكّنت من التأثير على الوعي العام لدى شعوب هذه الدول، واستمالتها بالترهيب أو بسِحر الثقافة الأميركية!
إذًا، يمكن القول إنّ تاريخ السياسة الخارجية الأميركية يظهر بشكل جليّ لا لبس فيه، محاولات واشنطن المستمرة من أجل فرض رؤيتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية على العالم بأسره. وهنا يعود بعض المحللين لتفسير هذه النزعة التسلطية من خلال، ما مرّت به الولايات المتحدة نفسها، لناحية تدمير السكان الأصليين للقارة الأميركية، ومَحْق ثقافتهم وتاريخهم.
كل هذا مثبّت بالوثائق والحقائق على شبكة الإنترنت وفي العديد من المواقع الصحفية، التي تظهر مواد كثيرة تشهد على ممارسات الخارجية للولايات المتحدة، وتكشف محاولات تدخلها في شؤون الكثير من دول العالم.
بعض من هذه المواد موجود على “بوابة إلكترونية” للمعلومات تحت مسمى (britishfiles.com)، على هذا الموقع قامت مجموعة من المقرصنين بنشر مواد إعلامية تحت عنوان (White Book)، تظهر بالترتيب الزمني والوقائع محاولات تدخل واشنطن في الشؤون الداخلية لدول كثيرة حول العالم.
ومن بين هذه المحاولات أيضا تنظيم الانقلابات المسلحة والتحضير لثورات ملونة، وكذلك إطلاق العنان لحروب دموية في بعض الكيانات، وتمويل المنظمات الإرهابية وتسليحها…
هذه السجلات تسرد وقائع تاريخية للممارسات الأميركية في أكثر من دولة في أكثر من قارة، فترجع بالأحداث والتواريخ وصولاً إلى الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة بحق السكان الأصليين في القارة الأميركية نفسها.