يعقد في ٢٤ أيلول الجاري، اللقاء المرتقب لنواب الأمة عن المقاعد السنية في دار الفتوى بدعوة من مفتي الجمهورية، في محاولة للم الشمل ووحدة الصف، مواكبة للاستحقاقات الدستورية الداهمة، ومواجهة للتحديات الوجودية التي تهدد لبنان الوطن والكيان والنظام، في هذه المرحلة المصيرية والمفصلية من تاريخ لبنان والمنطقة بأسرها.
الأمانة تقتضي، لا بل تفرض الإقرار بكل موضوعية، أن إقتصار اللقاء على من وافق على تلبية الدعوة من النواب السنة، سيجعل منه مجرد لقاء لالتقاط “الصورة التذكارية”، ولإصدار بيان “وجداني” تقليدي، لن يكون له أي أثر فاعل أو تأثير على صعيد الحركة السياسية، بحيث ستنتهي مفاعيل اللقاء “المحدود”، في اليوم الذي يليه، لتعود الأنظار بعدها إلى مراقبة وتتبع مسار التطورات الإقليمية وإنعكاساتها على الداخل اللبناني بكل تعقيداته.
هذه القراءة، ليست إنتقاصاً من المقام الجليل لمفتي الجمهورية، ولا للمكانة الرائدة والريادية لدار الفتوى، ولا تحمل أي إساءة الى من سيشارك من النواب، إنما هدفها عدم تحميل اللقاء وصاحب الدعوة إليه والمكان الذي سيلتئم فيه ما لا طاقة على تحمله من إتخاذ مواقف – قرارات، يؤخذ بها من قبل من يملك الحل والربط وحسم الخيارات.
هنا، يجب التوضيح أنه وحتى هذه اللحظة السياسية لم تنضج الظروف المحلية والعربية نفسها التي منحت “اللقاء الإسلامي” الذي أسسه منتصف الثمانينيات المفتي الشهيد حسن خالد غطاءً إسلامياً ووطنياً جامعاً وشاملاً، فضلاً عن دعم عربي وغربي، ما مكنه آنذاك من أن يملأ الفراغ السياسي السني، بعد إستبعاد أو تطويع (عن طريق التهديد) الزعامات والقيادات السنية، فضلاً عن حل وتصفية الأحزاب (ذات التوجه الناصري) التي كانت تستقطب الشارع السني بالمفهومين التنظيمي والوجداني…
لذلك، يجب التعاطي مع اللقاء المرتقب، وما يصدر عنه من مواقف تعبّر عن ثوابت دار الفتوى الوطنية، على أنه محاولة لوضع النواب السنة (من سيحضر ومن لن يحضر منهم)، أمام مسؤولياتهم التي تمليها عليهم مناصبهم النيابية، لجهة المبادرة الفورية للعودة إلى جذورهم السياسية، مظللين بعباءة و”بركة” دار الفتوى، من خلال موقف موحد يواجهون باسمها كل التحديات والمخاطر التي تهدد لبنان الدولة ومؤسساتها وإستحقاقاتها الدستورية، إزاء كل النوايا التي لم تعد خفية للإطاحة بالدستور وتجاوزه، بهدف أخذ لبنان إلى الفوضى الشاملة، التي هي رغبة أطراف محلية، مدعومة إقليمياً من المحور الذي تنتمي إليه، تمهيداً لقلب النظام، متى نضجت الظروف الخارجية لذلك، وتلاقت وتماهت مصالح عواصم القرار على إعطاء الضوء الأخضر للإنقلاب على “الطائف”، وإستبداله بنظام يحقق الغلبة للفريق “المنتشي” بفائض قوته (المتورمة سرطانياً) والمستمدة من ولائه المحكم والمطلق للنظام الفارسي في إيران، بعدما جرّد وأعفى نفسه فكرياً وعقائدياً من إنتمائه اللبناني وهويته العربية!.
ولكن، ثمة أسئلة تطرح نفسها في هذا السياق: ماذا بعد إنقضاء الإجتماع؟ هل البيان الذي سيصدر عنه، من شأنه أن يحدث تغييراً إيجابياً؟
غير أن السؤال الأبرز والأهم، بين كل الأسئلة: هل سيمهد الإجتماع لإمكان إنشاء صيغة “تجميعية” شبيهة بـ “اللقاء الإسلامي”، تستعيد من خلالها دار الفتوى موقعها التاريخي والطبيعي كمرجعية وطنية وإسلامية جامعة، تشكل حجر الزاوية الضامن للتلاقي بين مختلف مكونات المجتمع اللبناني؟ وذلك مواكبة لهذه المرحلة، التي قررت فيها قوى وشخصيات سياسية وازنة ومؤثرة وذات تمثيل واسع لأسباب موضوعية، الإنكفاء المؤقت والإبتعاد عن المشهد السياسي، أو الوقوف موقف المراقب عن بعد من دون الدخول المباشر في الحركة السياسية، مما أحدث الفراغ الكبير.
طبعاً لا أحد يملك في المدى المنظور أجوبة حاسمة وواضحة عن كل هذه التساؤلات، وسط هذا الصخب السياسي المتفلت الأقرب إلى الجنون، الذي تقابله حالة من الشعور بالإحباط والغبن يسود الطائفة السنية، القلقة ليس على مصيرها الوجودي الراسخ والمتجذر وحسب، بل على الصيغة اللبنانية المرتكزة على التعدد والتنوع، من خلال محاولات إلغاء أو تحجيم الدور الميثاقي للطائفة كمكون سيادي مؤسس لدولة لبنان الكبير.
لذلك، وأمام كل هذه التحديات والمخاطر، على جميع القوى الحية والنخبوية (من غير النواب) أن تلتف حول مبادرة المفتي عبد اللطيف دريان، ومواكبة الإجتماع النيابي في دار الفتوى، وبذل أقصى الجهود ليشكل منطلقاً جديداً يؤسس للدور المرجعي الإنقاذي المطلوب أن تؤديه “الدار”، من خلال إبتكار صيغة متطورة ومرنة لإطار تجميعي يضم شخصيات وكفاءات وازنة وموثوقة، تتمتع بمواصفات قيادية، لتكون بمثابة “القيادة السياسية” لدار الفتوى برئاسة مفتي الجمهورية، تفوّضه بالإجماع إتخاذ وإطلاق المواقف الندية بإسم الطائفة كشريكة حقيقية في كل ما يتعلق بالقرارات السيادية والوطنية والمصيرية، تكريساً لمبدأ الشراكة الذي هو جوهر فكرة قيام لبنان.
إعلامي وباحث في التراث الشعبي