هل يمكن أن يمر الانفتاح السعودي على الرئيس بشار الأسد بسلاسة لا تعترضها أي حساسيات أو أي عراقيل أو أي تسويات تأتي على حساب رؤوس هنا وتكتلات هناك؟
وهل تتمكن الولايات المتحدة من اعادة تصويب التحالفات في الشرق الأوسط وقطع الطريق على ما يأكل من نفوذها ويحد من انتشارها؟
حتى الآن الجواب رمادي الى حد ما، اذ أن ما تقدم عليه الرياض في الموضوع السوري ليس خلافاً ثنائياً محدوداً في المكان والزمان بين فريقين يمكن تسويته بزيارات وزارية متبادلة بعيداً من ملفات أخرى تعني أطرافاً آخرين متجذرين في سوريا منذ الحرب التي اندلعت فيها العام ٢٠١١.
ويتفق الكثير من المراقبين على أن سوريا “الابن” ليست سوريا “الأب” وأن الوضع فيها اليوم يشبه حقل ألغام واسعاً، ما يكاد أحدهم يتجاوز لغماً حتى يواجه لغماً آخر، مؤكدين أن السعودية تخوض “اقتحاماً” كبيراً قد تخرج منه بتقارب مع الأسد وتباعد مع الولايات المتحدة التي بدأت تطلق تحذيرات من مغبة التعامل مع نظام حاكم تطوقه بالعقوبات في مكان والعسكر من جهة أخرى، وكباش آخر مع اسرائيل التي تعمل لضرب أي تسوية عربية أو اقليمية أو دولية مع سوريا قبل التأكد من عودة الهدنة الراسخة التي ثبتها الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد حرب العام ١٩٧٣.
ويذهب هؤلاء بعيداً الى حد القول ان هذا “الاقتحام” يشمل أيضاً أطرافاً أساسية أخرى هي ايران وتركيا وروسيا وقوى المعارضة السورية، اضافة الى ما بقي من قوى “الرابع عشر من آذار” في لبنان، وتحديداً “القوات اللبنانية” التي باتت تعرف في السنوات الأخيرة بأنها “السنية المسيحية” “في الحسابات السعودية، لافتين في هذا المجال الى أن من غير الممكن أن تحصل الرياض على كل شيء من الأسد من دون أن تعطيه أي شيء يتعدى “المقعد الخشبي” في الجامعة العربية.
ويقول مصدر قريب من المفاوضات السعودية – السورية، ان الرياض لا يمكن أن تحصل على “صفقة” غير متوازنة مع الأسد تشمل سحب الميليشيات الايرانية وبينها “حزب الله” من سوريا واعادة النازحين السوريين الى بلادهم، من دون أن يحصل في المقابل على ما يرسخ حكمه في دمشق أولاً، ويفك الحصارات الدولية التي تخنقه اقتصادياً ومالياً وسياسياً، وديبلوماسياً وعسكرياً ثانياً، ويفتح أبواب سوريا أمام استثمارات وازنة وفاعلة ثالثاً، اضافة الى استعادة موقعه المؤثر في لبنان، وهو الموقع الذي يعتبره أساسياً في مسار حماية النظام، واستيعاب قوى المعارضة السورية واللبنانية معاً.
ويرى المصدر عينه أن الرياض تحاول السير بين النقاط لعلمها أن أي دعسة ناقصة قد تخربط عملية التطبيع مع ايران إن هي تعرضت لميليشياتها في دمشق، وتزيد من تشنج العلاقات مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية إن هي خرقت “قانون قيصر” وعوّمت حكم الأسد، وتنعكس سلباً على علاقاتها مع تركيا المستنفرة في مواجهة الأكراد، وتثير الهواجس لدى قوى المعارضة السورية التي بدأت تتخوف من مخرج سياسي قد يأتي على حسابها، وهو أمر تنفيه الرياض وتصر مع دول عربية عدة على حتمية إشراك المعارضين السوريين في أي نظام حكم جديد في سوريا.
والواقع أن ما ينطبق على المعارضة السورية ينطبق أيضاً على المعارضة اللبنانية ولا سيما “القوات اللبنانية”، وسط تقارير تفيد بأن الأسد أبلغ الى السعوديين أنه “لا يمكن أن يسحب أعداء أميركا واسرائيل من سوريا، ويتغاضى في الوقت عينه عن أعداء سوريا وايران في لبنان”، محاولاً بذلك استعادة الأجواء التي أعقبت “اتفاق الطائف” وأنهت حقبة المعارضة المسيحية المسلحة في لبنان.
وفي معنى آخر، يرجح مصدر ديبلوماسي ألا يطول الأمر قبل أن يدرك المطبعون العرب أن خطايا الأسد وحلفائه لا يمكن أن تمحى بشحطة قلم، وقبل أن تدرك الرياض أن مساعيها في دمشق لن تكون “مهمة سهلة “، على الرغم من حاجة الرئيس السوري الى متنفس عربي بحجم الوزن السعودي، ومن صفاء النيات والأهداف، مدركة أن التركيبة الحالية التي أعقبت الحرب السورية، تشبه التركيبة التي أعقبت غزو الكويت وحرب الخليج حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام واحد من خيارين، اما الذهاب الى اجتياح دولة عربية هي العراق من دون غطاء عربي وازن بحجم الوزن السوري، واما الذهاب اليها بصفتها دولة غازية لا منقذة.
وقد ساهم عناد الجنرال ميشال عون و”حرب التحرير العبثية”، في دخول حافظ الأسد على الخط عارضاً توفير الغطاء العربي المطلوب ولو في الشكل في مقابل سحب النفوذ العراقي من شرق بيروت، وقطع رأس الحكومة العسكرية الانتقالية في بعبدا، والسيطرة على لبنان، ليدخل بعدها المسيحيون على كل المستويات في مرحلة الهبوط المخيف المتواصل حتى الساعة.
ومع دخول الولايات المتحدة على الخط، مشددة الخناق على “حزب الله” وايران وسوريا، من خلال حزمة عقوبات جديدة، أدركت السعودية أن الأمر قد يضعها في موقع يشبه موقع الأميركيين خلال حرب الخليج أي “موقع البيع والشراء” في العلم السياسي وهو ما ترفضه تماماً، معترفة خلف الكواليس بأن ثمة ألغاماً لا يمكن الدوس عليها لأكثر من سبب، وثمة قرابين لا يمكن تقديمها في أي وقت وأي مكان.
ومع الاستقبال اللافت والمقصود الذي خصصه بنيامين نتنياهو لنجل الشاه الراحل رضا بهلوي في اسرائيل، أدركت ايران أن التصعيد الذي تمارسه على حدود اسرائيل بالتوازي مع المصالحات الايرانية العربية، لا يعني أن أمنها الداخلي بات في خير، وأن النظام الحاكم في طهران بات بعيداً من الهواجس، وهو أمر لا تبدو السعودية في وارد التورط فيه لا من قريب ولا من بعيد.
انها في اختصار، النقطة التي سقطت في بحر التناقضات الاقليمية المعقدة والمزمنة وتوزعت على أكثر من نقطة في وقت واحد، ووضعت المفاوضين أمام خيارات أحلاها “صلح” مع الأسد العاجز حتى الساعة عن تقديم تنازلات يعتد بها من دون اتفاق مع حلفائه، أي ايران وروسيا، وأمرّها تباعدات محتملة بين العرب والمعارضين في سوريا ولبنان، لمصلحة تكتل مسيحي – سني جديد يغطيه الشيعة ويدخل في تسوية سياسية لبنانية تبدأ برئيس يرضي قوى الممانعة، ويبقي الآخرين في الخارج اما متفرجين واما خائبين واما قرابين.
هذا في الشكل والمضمون معاً، لكن الكلمة الفصل تبقى موجودة في مكان آخر، وتحديداً في واشنطن التي وجدت نفسها وحيدة في الشرق الأوسط، لا بل في مرمى نيران الممانعين المدعومين من روسيا والصين وايران، وفي موقع حرج يضعها أمام خيارين: اما العمل مع المطبعين العرب لتبادل ما يخدم مصالح الطرفين، واما “تفخيخ الطريق” نحو سوريا وايران.
وليست الذكرى التي أقامها الأميركيون لتكريم قتلى السفارة الأميركية في عين المريسة في العام ١٩٨٣، الا اشارة في أكثر من اتجاه تبلغ من يعنيه الأمر، أن أي صلح أو تسوية تتجاوز البيت الأبيض وتل أبيب لن تمر بسلام، وأن أي حرب قد يخوضها أي طرف في الشرق الأوسط لن تكون بالسهولة التي يروّج لها البعض سواء من ايران أو الضاحية الجنوبية.
وأكثر من ذلك، أوحت المواقف الأميركية المتشنجة أن أي رئيس يُطرح من الضاحية الجنوبية لن يصل الى قصر بعبدا، مستخفة بما يروّج له سليمان فرنجية عن علاقات شخصية “ايجابية ومساعدة” مع كل من الأسد وحسن نصر الله يمكن أن تؤتي ثماراً غير عادية.
ويقول مصدر أميركي: “لقد عايشنا بعد اتفاق الطائف رؤساء على علاقات وطيدة مع الرجلين ولم يسهم ذلك الا في مزيد من التجذر الايراني في لبنان”، مؤكداً أن واشنطن المتأهبة على جبهات عدة، تعتبر لبنان الآن، واحدة من المحطات الأساسية التي يمكن أن تتمترس فيها في مواجهة المحور الايراني – الروسي – الصيني، وفي موضوع الغاز و”الذهب الأسود” الذي بات أكثر لمعاناً بعد حرب أوكرانيا.
حيال هذا المشهد المعقد، لا بد من سؤال أخير يطرح نفسه بإلحاح: هل تمضي السعودية قدماً في سياسة السير بين الألغام على الرغم من كل المحاذير والتداعيات، أم تكتفي بتهدئة الجبهة اليمنية وكم أفواه “حزب الله” وخلاياه المنتشرة في الخليج، ولينزع الآخرون أشواكهم بأيديهم سواء كانوا من الداعين الى الحرب مع اسرائيل أو من الداعين الى الحرب مع ايران؟
في الانتظار، يترقب طرفان أساسيان بحذر ما يجري في الجوار هما “حزب الله” و”القوات اللبنانية”، ربما لأن التجارب السابقة تذكر الأول كيف تخلوا عنه في “حرب تموز”، وتذكر الثاني كيف تنكروا له بعد “حرب الخليج”.