يُقال عندما تنهار الدول، تتجه أنظار الجماهير، نحو شخصية البطل. من أين سيولد، ما مواصفاته وما أقصى ما يمكنه تقديمه للجماهير الخائفة والمحتارة. تنهار الدولة، فيستيقظ البطل في المجتمع ؛ كي يلعب الدور. ما يمتاز به الأبطال، أنهم لا يكترثون لحسابات الربح والخسارة، إنهم يتحركون بدافع المجد، مجد بلادهم وحقها في استعادة حياتها الطبيعية. لهذا تعود إليهم المجتمعات، تستدير نحو عناصر قوتها، تُفتش عن ملاذاتها الأولى؛ لتحمي نفسها من مباغتات الزمن والأقدار.
قبل ثمانية أعوام، كانت البلاد تتهاوى وقلوب الجماهير زائغة ومكشوفة. وكان حمود سعيد يشد مئزره ويقطع شوارع المدينة غير عابئ بالرصاص الماطر فوق رأسه. حين أوشك اليأس أن يجتاح نفوس معظم البشر. كان البطل يحشد قواه ويعدِّل مسار التاريخ. من حيّ صغير في المدينة، وبضع رجال جواره، وضع الشيخ المقاوم حدًّا للمسخرة المتمددة وألهب حماس الروح المقاومة في كامل ًحغرافيا البلاد. هل تذبل قيمة التضحيات، هل يستطيع الزمن تجريد الرموز الكبيرة من عظمتهم..؟ لا.
تبدو السطور أعلاه حديثًا عن زمن منصرم؛ لكن فكرة البطولة لا تندثر، وأرواح الأبطال تُعاود التدفق في كل زمان ومكان. تكاد الغالبية العظمى من سكان البلاد، يُقرِّون ببطولة الرجل القادم من جبال مخلاف. أنصاره وخصومه معًا. حيث المهابة تحضر وتلازمه على الدوام. أنجز الشيخ حمود ملحمته، هذا حديث للتذكار، يفقهه الناس جيدا. تمكّن من الدفاع عن فكرة الدولة، ثم غادر نحو منصة أخرى. دافع عن كرامة البشر بالبندقية والنار تندلع في صدره، ثم ذهب يرمم جراحات رجاله بطريقة أخرى. ظن الكثير أنه تخلى عن مهمته الأساسية؛ لكن الأبطال لا يدفنون رؤوسهم في الرمال ولا يعتذرون للتاريخ كلما هتف لهم؛ ليسدوا الثغرة مجددًا.
في ال 29 من يوليو، 2023..تصفحت نبأ إشهار لمظلة جديدة. ” المجلس الأعلى للمقاومة” كثيرة هي أنباء التأسيس لمنصات بلا عدد. غالبيتها تموت لحظة ميلادها؛ لكن هذا النبأ جدير أن نثق به. إنه يقدح شرارة الروح البطولية الأولى. تلك التي أيقظت روح الفداء وهيأت الأرض لاستعادة حلم الدولة المستباح. تصفحت بيان إشهار” المجلس الأعلى للمقاومة “، لمحت اسم الشيخ حمود المخلافي. يا ترى، هل هو البطل وقد عاود استدارته؛ ليفتح نافذة جديدة..؟ دعنا نوقظ الحلم مجددًا. ما من خيار سوى أن يحتشد الناس، حول فكرتهم الأولى. أكثر الطرق أصالة. “المقاومة” تلك الفكرة العالية، المحروسة من أي ريبة أو ضلال.
في تاريخ كل الشعوب، كل حركات التحرر الوطني، كان هدف فكرة ” المقاومة” هو تمهيد الطريق لفكرة ” الدولة”. وحتى يتحقق ذلك الهدف؛ تظل فكرة المقاومة هي المبدأ التأسيسي للشعوب ومصدر المشروعية الأول. لا تولد الدوِّل من صالات التفاوض، ولا يمكن للمنطق الناعم أن يُفضي لمصير مأمون. وحدها كيانات الرفض الشعبي المعزز بالقوة، بمقدورها حراسة حلم الدولة ومدافعة المصائر المغشوشة.
إن كان هناك من خطأ في التقدير، رافق مسار الحرب في اليمن. فهو تحجيم فكرة المقاومة والمسارعة لمأسسة القوة المحاربة، قبل الوصول لفكرة الدولة أو الاقتراب من واقع سياسي ضامن لها. لا بأس بتنظِّم كتلة المقاومة واعتبارها مؤسسة دفاعية رسمية ومحاربة. لكن روح المقاومة، كان يجب أن تظلّ متقدة، جدير بالمقاوم أن يظلّ متأهبًا طوال الخط. فلا يوجد مجتمع حيّ يركن للطمأنينة ويُسلم مصيره لوعود سلام كلها محاطة بالسراب.
من هنا، يتجلى إشهار مجلس المقاومة، كنشاط، يستعيد الحق الأول للمجتمع بحماية مصيره. جهد لتنظيم القوة وابقاء قبضة الشعب متأهبة لحراسة الحلم المغدور. حلم الدولة اليمنية العالق بين خطاطيف القوى المتصارعة. ميلاد مجلس المقاومة، تدبير أساسي ومهم، إحياء للسياج الأول لفكرة الدولة وتذكير للقوى المتطفلة_ وقد توهمت أن الجو بات خاليًا أمامها؛ كي تعبث بمصير الشعب دونما رادع_ أن الشعب جاهز لتعديل الانحرافات، مواصلة النضال ومقاومة العابثين بمستقبل أبناءه.
حين يتضاعف التيه، وتتكاثر المسارات المشبوهة، حين يجد شعب ما نفسه يهرول نحو المجهول وأمامه مؤشرات خطر ومزالق تسير به نحو الهاوية. يتوجب عليه، أن يعود نحو المركز، نحو المنطلقات الصافية. حيث قوة الشعب الخام، هي المسؤولة عن مراقبة المسار. لقد أوشك الواقع أن يُصاب بالعتمة، وغدى الواجب اليوم، أن نوقد المصباح مجددًا. وبمقدور ” مجلس المقاومة الأعلى” أن يرفع الشعلة؛ ليستوضح الطريق، ليكتشف الناس فخاخ الغد وينجون من العبث.
من البديهي القول: إن المظلة الجديدة المسماة” المجلس الأعلى للمقاومة” لا تهدف لحشد الناس عسكريًا وبمعزل عن فكرة الدولة ومؤسساتها؛ لكنها الرديف الأكثر جدارة لإسناد فكرة الدولة المتضعضعة. لا ينقص الشيخ حمود أي مجد شخصي هو ورفاقه؛ لكن الشخوص المتسامين فوق كل مكاسب، يعزّ عليهم رؤوية بلادهم تتلاشى، لا يتقبلون البقاء في الهامش وترك مصير مجتمعاتهم تجرفه السيول والرياح من كل مكان. لا يحتاج الشيخ ومجلس المقاومة لمن يمتدحهم، لكننا بصدد التذكير بقدسية فكرة المقاومة، وحاجتنا للرهان عليها مجددا.
فكرة أخيرة: حتى في الدول المستقرة، تلك التي تملك جيوشًا هائلة ومؤسسات راسخة، تجد لديهم ما يشبه الكتلة الاحتياطية، قوة مجتمعية لديها جاهزية لإسناد الدول فيما لو تعرضت لأي طارئ يربك حياتها. إذا كان هذا في الدول الراسخة، فاليمنيون، أكثر حاجة لمظلة شعبية، أشبه بحائط صدّ، واجهة تعمل لتنسيق الجهود وتحتفظ بجسور تواصل حية مع الجماهير. طوال تاريخ الدولة اليمنية كانت مأساة اليمني في تعرض تضحياته للهدر، يضحي اليمني كثيرا، لكنه لا يقبض أي ثمن. يبدع في الفداء ويفشل في حماية مكاسبه. ولعل تشكيل مجلس المقاومة؛ خطوة لتلافي قصور التجارب النضالية السابقة، كما هي رمزية لتكريم الدماء والأرواح المبذولة. واحياء المبدأ الذي ضحوا من أجله.
الخلاصة: لسنا في مهمة جديدة للإيمان بفكرة المخلِّص “المسيح المنتظر” ولو كان الشيخ حمود جديرا بهذه الصفة وبكل ثقة وشرف. لكننا اليوم أمام مهمة جديدة، نحتاج فيها لتنشيط مبدأ المقاومة. وليس من حق أحد، إبطال هذا الخيار تحت أي مبرر كان. يحوز المبدأ المقاوم موثوقيته في ذاته وليس بحاجة لتسوّل مشروعيته من جهة خارج جوهر الفكرة. ما هو مهم أن يعمل المجلس بشكل حيوي، لمراكمة عوامل قوته وبما يمنحه ثقة مضاعفة ويجعل منه مصدر أمل جديد للناس. ” مجلس المقاومة” ميزان لصيانة فكرة العدالة والحرية، وذراع تحدّ من تغول الجهات المتاجرة بمصير الشعب. أو هذا ما هو جدير بأن يكون عليه ويعمل لأجله.
لهذا يكون الشيخ حمود المخلافي والمجلس الجديد، أمام تحدي، للنجاح في تمثيل قوى المقاومة، وانتزاع المساحة اللائقة بهذه الكتلة الفدائية منذ سنوات. عليه أن يعمل فحسب. دعك من الأذهان المرتابة، تلك الأفواه المتبطلة، البشر العدميون، حيث لا مهمة لهم، سوى الهمز واللمز. أمامك مهمة عابرة لكل منطق تبخيسي، مهمة تنشيط الروح البطولية الأولى، تطهير الروح اليمنية من الخدر الذهني، وتحرير طاقات المجتمع المحبط. نحتاج أن نستعيد إيمان الناس بأنفسهم، رفض كل المسارات المختلة والمصائر المشبوهة. ومثلما تمكن الناس_ بداية الحرب_باندفاعتهم الأولى من شق طريق جديدة من قلب الكابوس المُطبق عليهم من كل الجهات. فهم أكثر قدرة على لملمة قواهم المبعثرة، التكتل مجددا، وموازنة الواقع الزائغ.
بمقدور كل فرد ما تزال جذوة النار في داخله، أن ينفخ فيها مجددا. فلا يليق بمن رفع الدعامة الأولى للوجود اليمني، أن يُسلم مجتمعه للمخططات الجاهزة أو للصيغ السياسية المدجنة. فالأبطال يعرفون كيف يعيدون خلق الواقع، لا ينخدعون بالضباب حين يتكثف حولهم. ويملكون القدرة على شق مسارات مبتكرة. فالمبدأ لديهم شديد الوضوح والخديعة أقل ذكاء من أن تُلزمهم بصوابها. يمكن للشيخ المقاوم وأمثاله ممن يعتنقون المبدأ ذاته في كل مكان. يمكنهم أن يصطفوا مجددا، يضربون بأيديهم على صدورهم، ويُطلقون صفارة بين أهلهم وناسهم؛ لاستئناف النشاط الحارس للحلم الكبير. حلم اليمنيين بدولة حرة تملك قرارها، إرادتها، يعترف بها العالم، تتعامل مع الجميع، بندية، بكبرياء وشرف، وكذلك يفعل الأخرون معها. وحده التلويح بمبدأ المقاومة، قادر على تنشيط هذا الحلم وصيانته، حتى يؤمَّن مسار الدولة مسارها، ونبصر الطريق مجددا وبوضوح.