لماذا اختارت إسرائيل استهداف إيران بأسلوب محسوب؟

29 أكتوبر 2024
لماذا اختارت إسرائيل استهداف إيران بأسلوب محسوب؟


سجلت إسرائيل عدة ضربات جوية على مواقع عسكرية في إيران في 26 تشرين الاول 2023، بعد تصعيد خطابي وإيراني في الآونة الأخيرة. ولكن هذه الضربات جاءت أقل مما كان متوقعاً، مما أثار تساؤلات حول سبب عدم استهداف إسرائيل للمنشآت النووية والنفطية الإيرانية.

على الرغم من التهديدات الإسرائيلية السابقة بالاستهداف، اختارت تل أبيب توجيه ضربات “رمزية” تستهدف مواقع عسكرية محددة دون أن تمس البرنامج النووي أو البنية التحتية النفطية. هذا الخيار لم يكن فقط بسبب الضغوط الأميركية، بل يعكس أيضاً تعقيدات الوضع العسكري والجيوسياسي.

تشير الرواية الإسرائيلية إلى أنها استهدفت 20 موقعا عسكريا في إيران بمشاركة مئة مقاتلة جوية، ونفذت الهجوم عبر 3 موجات استغرقت نحو 4 ساعات بدءا من الساعة الثانية صباح السبت، وركزت الموجة الأولى على استهداف منظومات الدفاع الجوي والرادارات، فيما توسعت الموجتان اللاحقتان لتشملا قواعد صاروخية ومنشآت لتصنيع الطائرات بدون طيار.

ويظهر حجم الدمار في المواقع المستهدفة أن الضربة كانت “دقيقة للغاية” ولم تحدث أضرارا واسعة النطاق، مقارنة حتى بالدمار الذي أحدثته الصواريخ الإيرانية في بعض المواقع الإسرائيلية في الأول من تشرين الأول، وهو ما يتسق مع ما نقلته وكالة تسنيم الإيرانية التي شككت في الرواية الإسرائيلية حول حجم الضربة، مؤكدة أن عدد المواقع المستهدفة كان أقل مما تدعيه إسرائيل.

والأهم في هذا السياق هو أن إسرائيل تجنبت تماما، بحسب رواية الطرفين، استهداف أي من مواقع البرنامج النووي والمنشآت النفطية في البلاد، أو استهداف مقرات الحكم والشخصيات البارزة في القيادة الإيرانية، الأمر الذي كانت تهدد به إسرائيل قبل الضربة.

لكن ذلك لا يعني أن الضربة الإسرائيلية كانت فارغة تماما، حيث نجح الجيش الإسرائيلي في تقديم استعراض لقدرته على الوصول للمجال الجوي الإيراني عبر مسار طويل اخترق فيه الدفاعات الجوية لبلدين هما سوريا والعراق على الأرجح، ممهدا للضربات من خلال قصف الدفاعات الجوية والرادارات في كلا البلدان كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز.

كما أظهرت الاستهدافات، رغم محدودية طاقتها النيرانية، قدرات استخبارية إسرائيلية في الداخل الإيراني ومقدرة على تحديد مواقع منشآت عسكرية بدقة، والأهم أنها اقتربت من محيط المنشآت النووية المهمة، واستعرضت قدرتها على الوصول إليها. (الجزيرة)

كذلك لم يكن اختيار محافظة خوزستان للضربات الإسرائيلية عشوائيا على ما يبدو، فثمة رسائل تريد إسرائيل توصيلها لطهران عبر استعراض وصول نيرانها إلى خوزستان، حيث يقع في هذه المحافظة الحدودية، المجاورة للعراق ومياه الخليج العربي، أغلب حقول النفط الإيرانية بما يمثل قرابة ثلثي الإنتاج النفطي للبلاد، كما تضم محطة “كارون” النووية، أحدث مشروعات الطاقة النووية في إيران والتي بدأ إنشاؤها عام 2022، بالإضافة لهذا، يقع في خوزستان “مجمع فارس الجنوبي للغاز”، المسؤول عن إنتاج الشق الأكبر من الغاز الإيراني.

في السيناريو المثالي إذن، تريد إسرائيل ومن ورائها أميركا أن تمتنع إيران عن الرد مجددا، وتتراجع إلى المقعد الخلفي مكتفية بإسناد “محور المقاومة” على الجبهتين المشتعلتين في غزة ولبنان، وفي أسوأ الأحوال أن تكتفي برد رمزي (أقل حدة من سابقه) تاركة الكرة في ملعب إسرائيل لإنهاء هذه الجولة من التصعيد المتبادل. ولكن بالعودة إلى السؤال الرئيس: لماذا اتخذت إسرائيل هذا النهج على الرغم من تصريحات قادتها التي رفعت سقف التوقعات بشأن ضربة أكثر قوة وحسما؟.

الدور الأميركي: مفتاح السر
العامل الأول بكل تأكيد هو الضغوط الأميركية التي تصاعدت على القادة الإسرائيليين خلال الأسابيع الماضية، وقد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانا يوم الثلاثاء 16 تشرين الأول قال فيه “إن إسرائيل ستنصت إلى الولايات المتحدة” مردفا أنها “ستتخذ قراراتها بناء على المصلحة الوطنية”.

وكان نتنياهو قد تلقى تحذيرات من الرئيس الأميركي جو بايدن من استهداف أي منشآت نفطية أو نووية في إيران في إطار الرد الذي تجهز له إسرائيل على الضربة الإيرانية المتوقعة. وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الخميس الماضي إن الولايات المتحدة “تنسق بشكل وثيق مع إسرائيل بشأن ما هو ضروري لردع المزيد من الأعمال العدائية من جانب إيران ولضمان ألا يؤدي أي رد إلى دائرة لا نهاية لها من التصعيد”.
 
على المستوى العسكري، تفتقر إسرائيل إلى القدرات اللازمة لتنفيذ عملية عسكرية شاملة ضد إيران. توجيه ضربات دقيقة للمنشآت النووية الإيرانية يتطلب استخدام قنابل متخصصة، مثل القنبلة “جي بي يو 57 إيه بي”، التي لا يمكن حملها إلا بواسطة قاذفات أميركية، مما يزيد من التعقيد اللوجستي.

أما سياسيا، يدرك الأميركيون جيدا تعقيدات الملف الإيراني أكثر بكثير من الإسرائيليين، فبعد كل شي إيران هي دولة نظامية مندمجة في منظوماتها الخاصة للتحالفات والعلاقات الدولية، وليست فصيلا مسلحا، مما يعني أن هناك تداعيات سياسية أوسع بكثير لخوض حرب ضد إيران. وتعد علاقات طهران مع كل من الصين وروسيا تحديدا من النطاقات الشائكة التي يمكن أن تجعل الحرب ضد طهران غير مأمونة العواقب.

فعلى الرغم من غياب الوضوح الإستراتيجي بشأن موقف روسيا من إيران التي تشاركها التنافس على النفوذ في محيطها الجيوسياسي الجنوبي (جمهوريات آسيا الوسطى)، فإن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن التقاء مصالح كبير بين طهران وموسكو، ويسود اعتقاد غربي بأن روسيا باتت تعتمد على إيران في قطاعات مهمة من قدراتها العسكرية، وأن إيران زودتها بصواريخ باليستية تكتيكية قصيرة المدى ومسيرات استخدمتها بفاعلية في الحرب على أوكرانيا، بل إن تقارير مشابهة صدرت الأيام الماضية اتهمت روسيا بتزويد حركة أنصار الله في اليمن (الحوثيون) بصواريخ باليستية طويلة المدى.

وبالنسبة للصين، فقد دفعت العزلة الغربية المفروضة على إيران منذ الثورة في 1979 إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية مع بكين، حتى باتت الأخيرة تمثل لإيران شريان حياة اقتصادي وتجاري، كما أن الصين تنظر لطهران أيضا كمصدر للطاقة أكثر أمانا في حال فرض عقوبات غربية على بكين يوما ما.

هذا التعقيد الجيوسياسي يجعل الولايات المتحدة غير متحمسة، حاليا، للدخول في حرب مع إيران، وتعتقد أن لديها من أدوات الضغط الطويل المدى على طهران ما يجعلها في غنى عن الاستجابة لمغامرات نتنياهو، وخاصة في ظل قلق الديمقراطيين من أن اشتعال الحرب قبيل الانتخابات ربما يعطي ذريعة أكبر لحملة ترامب لإبراز فشل الديمقراطيين في ضبط المنطقة والحفاظ على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة.

بالتزامن مع ذلك، يبدو أن جرعة الأدرينالين التي دفعتها الإنجازات العملياتية الضخمة -خاصة على الجبهة اللبنانية- في جسد إسرائيل السياسي خلال الأسابيع الأخيرة قد بدأ تأثيرها في التراجع. وكما تظهر أحداث الأيام الأخيرة بدأ حزب الله يستعيد عافيته بينما لا يزال التقدم بطيئا للغاية في العملية البرية التي تقودها الفرقة 36 في الجيش الإسرائيلي من بلدة عيترون شرقا على الحدود مع لبنان وصولا إلى راميا ومرورا بـ عيتا الشعب، نقطة التركيز الرئيسية. (الجزيرة)