أذكر من قراءاتي منذ أواخر السبعينات، في المنشورات الحزبية أو الجرائد اليسارية العروبية، تلك المقالات الكثيرة عن “المجتمع الصهيوني” واقتصاده وأحزابه وحكوماته وجيشه.
وكل مقالة منها كانت تجزم أن إسرائيل تنهار وتتفكك، كدولة فاشلة ليس من المستبعد أن تقع بحرب أهلية، وأن يهرب اليهود من فلسطين عائدين إلى أوروبا أو مهاجرين إلى أميركا وأستراليا وكندا.
والمذهل في الأمر أن تلك المقالات و”الدراسات” كانت تُكتب وتنشر في الوقت الذي كان فيه لبنان يعيش أسوأ الحروب العبثية والمتناسلة، ويتحول بلداً خرِباً، ومجتمعاً متشظياً ومنهاراً.
ناهيك عن أحوال الدول العربية ومجتمعاتها البائسة.
وعلى هذا المنوال، قام تراث المنشورات الشيوعية على مقولة “الامبريالية الرأسمالية تلفظ أنفاسها الأخيرة”، وظل هذا دأب مقالاتها حتى اليوم الأخير من الاتحاد السوفياتي.
وقبل أيام، كانت قناة تلفزيونية محلية تتحدث بتشفٍّ وشماتة عن تفشي كورونا في إسرائيل، والصعوبات التي يلاقيها النظام الصحي والنقص في المستلزمات الطبية وعدم جهوزية المستشفيات، بلغة يستشف منها أن كورونا، وإذ يكشف مكامن ضعف “العدو”، لربما سيقضي على هذه الدولة، وقد ينهار مجتمعها كله. والقناة عينها كانت تسهب في تعظيم “النجاحات” التي حققتها السلطات الإيرانية في مكافحة الوباء.. وهي نجاحات لم يرها أحد سوى جمهور تلك القناة. وفي المقابل، كان يحدث أمر شبيه مع المحطات التلفزيونية العربية المعادية لإيران، حين جعلت من “كورونا” فرصة ذهبية للترويج بأن النظام الإيراني على وشك الانهيار.
والأسوأ اليوم، هي تلك المقالات الرائجة عربياً عن سقوط الديموقراطيات وانهيار الرأسمالية ونهاية منظومة قيم الحداثة والليبرالية.. إلخ. بل ولم يتورع الكثيرون عن التنبؤ بانبعاث الشيوعية مجدداً أو الفاشية أو الفكر القومي.
ولم ينس الكثيرون استئناف معركة الطواحين مع فرنسيس فوكوياما و”نهاية التاريخ”.
وبعيداً عن كل هذا، يبقى أن الوباء اجتاح العالم وألحق به الأذى وأنزل الكوارث الاقتصادية والاجتماعية، وأصاب البشر جميعهم برضّة نفسية عميقة، ودفعهم إلى مراجعة أفكارهم أو نظرتهم إلى الحياة والموت، وألزمهم بسلوكيات جديدة أو مختلفة.. و في الأثناء تُمتحن أنظمة سياسية ومؤسسات الدولة الحديثة ونُظمها الصحية والاجتماعية، واستعداداتها للطوارئ وقدراتها الاقتصادية، بقدر ما يُمتحن فيها أيضاً تماسكها الاجتماعي والأخلاقي.
وإذا تجرأنا في السياسة أو في الاجتماع والثقافة على قول شيء، فهو أن الانتباه لكوكبيتنا بات أكبر، والشعور بوحدة جنسنا البشري صار أقوى، وإن الهشاشة ليست قصراً على الديموقراطيات، و”القوة” ليست من نصيب التوتاليتاريات، وإن سيئات “العولمة” لا تداوى إلا بالمزيد من العولمة، كما أن الالتجاء للعلم وليس للدين ما عاد مجرد خيار، حتى في قم أو الفاتيكان أو مكة.
وأما في الفضائل والأخلاق، فمن الواضح، أثناء الجائحة وإلى ما بعدها، نزوع المجتمعات الغنية والفقيرة، الغربية والشرقية، الملحدة أو المؤمنة.. نزوعاً متعاظماً للغيرية وللتعاطف والتكافل والتضامن، لا على مستوى وطني إنما عبر القوميات جميعها.
والأهم، إعادة الاعتبار لـ”التواضع” وكسر العنجهية التي جعلتنا ننسى ضعفنا، وننسى احترام الطبيعة، وننسى موقعنا الضئيل فيها وفي الكون. وبالطبع، لم يشذ عن ذلك سوى القادة السياسيين من الطراز السائد عالمياً اليوم، أكانوا في بلد صغير كلبنان أو في بلد متوسط الحجم كإيران وبريطانيا أو كبير كأميركا والبرازيل.. وتبين أيضاً أن الأزمة التي تصيب الآن الاقتصاد العالمي، الرأسمالي، لا تجد علاجها لا في نوستالجيا اشتراكية ولا في شوفينية وطنية.
وهذا حال الصين كما حال الاتحاد الأوروبي أو حال الدول المنتجة للنفط.
وإذ أعود إلى التقرير التلفزيوني المحلي عن فتك كورونا بإسرائيل متذكراً معه مقالات السبعينات والثمانينات، أتذكر أيضاً وصفها بـ”الأوهى من بيت العنكبوت”.
وعلى الأرجح، هي عبارة باتت تصح على كوكبنا كله وعلى الجنس البشري بأجمعه.
فالوهن هو في أصل “الوضع البشري” وامتيازه. الوهن هو “إنسانيتنا”.. وهذا ما لا تحوزه الآلهة.