كتب جورج حايك في “لبنان الكبير” يضخ “حزب الله” أجواء توحي بإنتصار محور الممانعة في المنطقة، وبأن الاتفاق السعودي – الايراني سيؤدي إلى اندحار الأميركيين والمعسكر الغربي في كل الساحات والميادين في الشرق الأوسط. ولا تنفصل معركة رئاسة الجمهورية اللبنانية عن هذه الأجواء الاعلامية غير المطابقة للواقع، لذلك هناك أوهام كثيرة متعلقة بحظوظ رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، ولعلها مقصودة للتأثير على تماسك المعارضة وتيئيسها.
أكثر ما يستخدمه “حزب الله” وحلفاؤه هذه الأيام هو الاتفاق السعودي – الايراني والتسوية التي تُطبخ بينهما للإتيان برئيس يطمئن إليه “الحزب” أولاً، ولا شك في أن فرنجية هو مرشّح هذا المعسكر، ومن الطبيعي أن تُنسج سيناريوات تتمحور حوله، من خلال ضمانات يقّدمها للسعودية حيناً، واستعداده للانفتاح على القوى المسيحية المعارضة له أحياناً أخرى. لكن محاولات “الحزب” التسويق لفرنجية بأنه مرشّح توافقي وتلميع صورته، لم تنجح حتى الآن، فهو مرشّح تحدٍ مقتنع بخيارات محور الممانعة، ولن يُقدم على أي أمر لا يوافق عليه “الحزب” خلال عهده المفترض، وهذا ما أكده بنفسه ضمنياً من البطريركية المارونية.
إذاً، فشلت عمليات تسويق فرنجية كمرشّح تسوية للاتفاق السعودي -الايراني، والسبب الأساس أنه لا وجود لتسوية حتى الآن، ولم يتداول السعوديون والايرانيون في الملف الرئاسي اللبناني منذ ابرام هذا الاتفاق في العاصمة الصينية بكين وحتى اليوم، بدليل أن ما يبثه الاعلام عن المحادثات الدولية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية اللبنانية ينحصر في الدول الخمس أي: السعودية، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، قطر ومصر. وما هو واضح أن ايران ليست طرفاً يُجرى التفاوض معه في هذا الشأن، لكن هذا لا يعني أن السعودية وايران لا تتباحثان، بل بالعكس ان جسور التواصل باتت قوية بينهما وتحصل على كل المستويات، إلا أن الملف اللبناني ليس أولوية، وربما لن يكون في المستقبل القريب. وليس سراً أنه في الاتفاقات بين الدول ليس هناك “حبّ وغرام” وعواطف، بل مصالح استراتيجية تؤخذ في الاعتبار وتشكّل الأولوية للطرفين. والسؤال الأساس الذي يجب أن تطرحه القوى السياسية اللبنانية لفهم هذا الاتفاق هو: ماذا استفادت كل من السعودية وإيران من الاتفاق؟
فالسعودية كان هاجسها الأساس الانتهاء من حرب اليمن الذي بات جرحاً نازفاً في خاصرتها، ووقف ايران دعمها للمعارضة في السعودية والبحرين، وهذا ما أصبح واضحاً وانعكس تهدئة نسيباً على ساحة اليمن وإطلاق مفاوضات بين السعودية والحوثيين.
أما إيران فستستفيد اقتصادياً من التقارب الجديد مع السعودية وخصوصاً أن الأخيرة كسرت العزلة الايرانية، وأمّنت لنظامها الطريق للانفتاح على المحيط العربي، وهذا ما سينشّط الاستثمارات العربية في ايران ويسمح لها بأخذ جرعات أوكسجين بعدما كادت أن تختنق.
هذا هو جوهر مضمون الاتفاق، أما ما نسمعه من تحليلات ونظريات من “حزب الله” عن انعكاس الاتفاق على الداخل اللبناني لمصلحته فليس سوى هلوسات إعلامية أو فقاقيع صابون إذا صح التعبير، سرعان ما ستتبخر في المستقبل القريب، عندما ستكشف الوقائع أن حساب الحقل غير حساب البيدر!
ولعل ما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، تعقيباً على اتفاق استئناف العلاقات السعودية – الايرانية، إنّ “لبنان يحتاج إلى تقارب لبناني، وليس إلى تقارب إيراني – سعودي”، مشدداً على أنّه “متى اتُّخذ تقديم المصلحة اللبنانية، فسوف يزدهر لبنان بالتأكيد، والسعودية سوف تكون معه”، موقف سعودي واضح ويعبّر عن الواقع بعيداً عن هلوسات “حزب الله” الذي يعتبر، عن سوء تقدير، أن السعودية ستضغط على أصدقائها في لبنان ليقبلوا بفرنجية رئيساً، ويسوّق بكل بساطة، أن هؤلاء سيرضخون مقابل بعض المكاسب الصغيرة ويمدد “الحزب” هيمنته على لبنان ست سنوات أخرى. ولا يستطيع محور الممانعة أن يصدّق بأن العلاقة بين السعودية وبعض القوى السيادية اللبنانية مبنية على الاحترام المتبادل، لا فرض ولا هيمنة فيها، بحيث إذا تعارضت ثوابت “القوات اللبنانية” مثلاً مع الخيارات السياسية السعودية، تحترم الأخيرة الخصوصية اللبنانية، عكس علاقة ايران بـ”حزب الله” الذي ينفّذ المشروع الايراني حتى لو كان ضد مصلحة لبنان!
والمفارقة أنّ هناك بنداً في الاتفاق السعودي – الايراني ينص على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها”، ومحور الممانعة الذي يؤمن بوحدة الساحات المتناقض مع هذا البند، يعلم أنه المعني الأول به، وبالتالي عليه أن يبدأ بالتفكير في تنفيذه، لأن السعودية تلتزم به في علاقاتها مع كل الدول، صغيرة كانت أم كبيرة، بما فيها اليمن، لأن نزاع اليمن حصل بسبب تدخل ايران ومحاولتها السيطرة عليه بواسطة الحوثيين، ولم تفعل السعودية سوى الدفاع عن حديقتها الخلفية هناك التي كان يتهددها الخطر الايراني.
صحيح أن المصالح السعودية تأتي في الأولوية على صعيد هذا الاتفاق، إلا أن هذا لا يعني أنها تخلت عن لبنان وعن أصدقائها فيه، وهذا ما تظهره كل التسريبات في ما يخص مفاوضات الدول الخمس حول الملف الرئاسي، وإلا لكان انتخب فرنجية رئيساً وأصبح اليوم في قصر بعبدا، لكن كل محاولات فرنسا المبنية على المصالح لإقناع السعودية بفرنجية باءت بالفشل، لأن الأخيرة مقتنعة بمواصفات معينة للرئيس العتيد، بحيث لا يكون موالياً لمحور الممانعة غير المؤهل لتأمين نهوض اقتصادي للبنان، وتشترط أن يكون الرئيس سيادياً، اصلاحياً وانقاذياً.
ضمنياً، يعرف “حزب الله” هذا الأمر، إلا أن الدعاية الاعلامية غالباً ما صنعت انتصارات كاذبة لهذا المحور المخادع، وهو يملك في لبنان امبراطورية اعلاميّة وشخصيات تمتهن الاعلام الزبائني والمدفوع أجره، فتضخ مجموعة أكاذيب لا علاقة لها بالواقع. وإذا افترضنا أن السعودية قبلت بفرنجية نتيجة تسوية معينة، فإن القوى السياسية السيادية الممثلة في البرلمان قادرة على تعطيل أي جلسة قد تفضي إلى انتخاب فرنجية، وبالتالي، على “حزب الله” توخي الدقة، وربما انطلاقاً من برغماتيته التي عُرِفَ بها في بعض الملفات، يجب التفكير في التراجع عن ترشيح فرنجية، لأن التسوية، إن حصلت، ستحمل إسماً غير محسوب على الممانعة ولا يمكن أن يكون ممثلاً للقوى السيادية، إنما إسم وسطيّ يجهل طرفا النزاع في لبنان لمن سيميل في النهاية.
لكن أدق وصف للواقع اليوم هو أن الشغور الرئاسي في لبنان سيطول، ومهما طُرح من أسماء أو سوّق لفرنجية أو غيره، ليس سوى تحليلات لملء الفراغ وأمنيات لا صدقية لها.
لا شك في أن الظروف الاقليمية تتغيّر وهذا لا يعني أنها لمصلحة “الحزب”، وهو قادر على قراءة الواقع اللبناني الذي استفحلت فيه الاستعصاءات الداخلية في الصراع على هوية لبنان. ويعلم “الحزب” أن الوقت ليس لمصلحته شعبياً في ظل انهيار مالي متسارع، لذا قد تتسارع الأحداث في المشهد السياسي اللبناني بحيث لا تنتظر الاتفاق السعودي – الايراني في ظل أخطار كبرى على الصيغة والكيان. وهذه الأخطار قد تهدد بكسر هيمنة “الحزب” أو ضرب احتكاره للسلطة في لبنان.
بعيداً عن الهلوسات الاعلامية، يجد “حزب الله” نفسه أمام انحسار محور الممانعة لمصلحة الترتيبات المقرر اجراؤها لاحقاً بفعل الاتفاق السعودي – الايراني، ولا يختلف اثنان على أن المشهد الاقليمي سيتغيّر مع تنازل إيران في بعض الساحات، ومنها لبنان، وبات عليه أن يبدأ بتنازلات في طليعتها سحب ترشيح فرنجية، للانتقال إلى مساحة مشتركة، مع أقل أضرار ممكنة، وإلا سيحاول كسب الوقت حتى نضوج التسوية التي لم تظهر ملامحها بعد، وحتماً ستكون للسعودية كلمة أساسية فيها، وسيكون على “الحزب” شرب الكأس المرّة، على طريقة “مكره أخاك لا بطل”!